[/center]
[size=24] الحديث المرسل : هو ما أضافه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
وهذا من أجود التعاريف ؛ لأنه يعمّ ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول ، أو فعل ، أو تقرير ، أو صفة ؛ فعلى هذا من عرَّفه بأنه : ما قال فيه التابعي : قال النبي صلى الله عليه وسلم ، فتعريفه قاصر ؛ لأنه لا يشمل التقرير ، أو الصفة ، أو الفعل . وكذا من عرَّفه بأنه : ما سقط منه الصحابي ، فكذلك تعريفه غير جيد ؛ لأنّا لو كنَّا نعلم أن الصحابي وحده هو الساقط لما ضعفنا الحديث ، إذ العلة بالمرسل :خشية أن يكون التابعي قد سمعه من تابعي آخر ، ولا نعلم لهذا التابعي الآخر عدالةً ولا ضبطاً .
وأما التابعي الذي يروي المرسل : فهو الذي لقي بعض الصحابة ، وسمع منهم أحاديث ، ولا يشترط فيه أن يكون كبيراً كما اشترطه بعضهم .
أما التابعي الذي له رؤية لبعض الصحابة ، ولم يسمع من أحد منهم ، فهذا إذا روى شيئاً مباشرةً عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فحديثه معضل ، وإذا روى شيئاً عن الصحابة فهو منقطع ؛ لأنّه ثبت له شرف التابعية ، لا أحكامها .
ومن هؤلاء : إبراهيم النّخعي ، والأعمش .
فإبراهيم النّخعي لقي عائشة ، ولم يسمع منها شيئاً ، والأعمش رأى أنساً ، ولم يسمع منه شيئاً .
وللفائدة : فإنَّ هذا التعريف للمرسل هو الذي استقر عليه الاصطلاح . أما السابقون : فكانوا يطلقون كلمة ( مرسل ) على كل منقطع .
فعلى هذا تكون طريقة تمييز المرسل بمجرد أن يعلم أنَّ الذي حدَّث به عن النبي صلى الله عليه وسلم تابعي ، وتمييز التابعين من غيرهم يعرف من كتب رجال الحديث .
حكم الحديث المرسل
اختلف أهل العلم في الاحتجاج بالمرسل على أقوال كثيرة ، أشهرها ثلاثة أقوال رئيسة :
القول الأول : إنَّ الحديث المرسل ضعيف ، لا تقوم به حجَّة . وهذا ما ذهب إليه جمهور المحدِّثين ، وكثير من أهل الفقه والأصول .
قال الإمام مسلم _ رحمه الله تعالى _ : (( والمرسل في أصل قولنا ، وقول أهل العلم بالأخبار ، ليس حجَّة )) .
وقال ابن الصلاح : (( وما ذكرناه من سقوط الاحتجاج بالمرسل ، والحكم بضعفه ، هو الذي استقرَّ عليه آراء جماعة حفاظ الحديث ، ونقّاد الأثر ، وتداولوه في تصانيفهم )) .
وحجَّتهم : هو جهالة الواسطة التي روى المرسل الحديث عنه ، إذ قد يكون الساقط صحابياً ، وقد يكون تابعياً . وعلى الاحتمال الثاني : قد يكون ثقة ، وقد يكون غير ثقة ، قال الخطيب البغدادي : ( والذي نختاره : سقوط فرض العمل بالمرسل ، وأنَّ المرسل غير مقبول ، والذي يدل على ذلك : أنَّ إرسال الحديث يؤدي إلى الجهل بعين راويه ، ويستحيل العلم بعدالته مع الجهل بعينه ، وقد بيَّنا من قبل أنَّه لا يجوز قبول الخبر إلاّ ممن عرفت عدالته ، فوجب كذلك كونه غير مقبول ، وأيضاً فإنَّ العدل لو سئل : عمَّن أرسل ؟ فلم يعدله ،لم يجب العمل بخبره ، إذا لم يكن معروف العدالة من جهة غيره ، وكذلك حاله إذا ابتدأ الإمساك عن ذكره ، وتعديله ؛ لأنَّه مع الإمساك عن ذكره غير معدل له ، فوجب أن لا يقبل الخبر عنه )) .
وقال الحافظ ابن حجر ، بعد أن ذكر المرسل في أنواع المردود : (( وإنَّما ذُكرَ في قسم المردود ؛ للجهل بحال المحذوف ؛ لأنَّه يحتمل أن يكون صحابياً ، ويحتمل أن يكون تابعياً ، وعلى الثاني يحتمل أن يكون ضعيفاً ، ويحتمل أن يكون ثقة ، وعلى الثاني يحتمل أن يكون حمل عن صحابي ، ويحتمل أن يكون حمل عن تابعي ، وعلى الثاني فيعود الاحتمال السابق ، ويتعدد إمَّا بالتجويز العقلي ، فإلى ما لا نهاية ، وإمَّا بالاستقراء ، فإلى ستة ، أو سبعة ، وهو أكثر ما وُجدَ في رواية بعض التابعين عن بعض )) .
القول الثاني : يقبل المرسل من كبار التابعين دون غيرهم ، بشرط الاعتبار في الحديث المرسَل ، والراوي المرسِل . أمَّا الاعتبار في الحديث : فهو أن يعتضد بواحد من أربعة أُمور : أن يروى مسنداً من وجه آخر ، أو يُروى مرسلاً بمعناه عن راوٍ آخر لم يأخذ عن شيوخ الأول ؛ فيدلّ ذلك على تعدد مخرج الحديث ، أو يوافقه قول بعض الصحابة ، أو يكون قال به أكثر أهل العلم .
وأمَّا الاعتبار في راوي المرسل : فأن يكون الراوي إذا سمَّى من روى عنه لم يسمِ مجهولاً ، ولا مرغوباً عنه في الرواية . فإذا وجدت هذه الأمور كانت دلالة على صحة مخرج حديثه ، فيحتجُّ به . وهو قول الإمام الشافعي .
القول الثالث : يقبل المرسل ويحتجّ به إذا كان راويه ثقة .
وهو قول أبي حنيفة ، ومالك ، ورواية عن أحمد .
والقول الصحيح هو الأول ؛ لأنَّ المرسل فقد شرط الاتصال ، والاتصال شرطٌ رئيسيٌ في صحة الحديث ، وليس هناك فرق بين القول الأول والثاني ؛ لأنَّ أصحاب القول الأول متَّفِقون على أن المرسل ليس من الضعف الشديد ، يتقوى بالمتابعات والشواهد ، فالقول الثاني ليس هو ناف للقول الأول ، إلا أن الفرق أن الشافعي خصه بكبار التابعين ، وسبب جعله قسيماً للقول الأول ؛ أنَّنا لم نجد من فصَّله بهذا التفصيل الرائع ، وعُد هذا من مآثر الإمام الشافعي ، زيادة على أنَّ قضية تقوية الأحاديث تدرك بالمباشرة ، وجعل ذلك تحت قاعدة كلِّية، يتورع عنها كثير من الناس ، إذ لكل حديث حالته الخاصة لاسيما قضية تقوية الحديث بعمل أهل العلم به يتوقف فيها كثير من الناس .
مثال المرسل : ما رواه أبو داود في سننه ( 105 ) ، قال : حدَّثنا محمد بن سليمان الأنباري ، حدَّثنا كثير بن هشام ، عن عمر بن سليم الباهلي ، عن الحسن ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( حصِّنوا أموالكم بالزكاة ، وداووا مرضاكم بالصدقة ، واستقبلوا أمواج البلاء بالدعاء والتضرع )) .
فهذا حديث مرسل ، فإنَّ الحسن البصري تابعي ، وقد أرسله إلى النبيصلى الله عليه وسلم ، ولم يذكر عمن سمعه ، فهو ضعيف من جهة إرساله ، وعدم اتصاله .
ومراسيل التابعين كلها ضعيفة ، لكنّها تتفاوت ، فبعضها أهون من بعض ، بحسب قدم التابعي المرسل ، وكبره ، أو صغره .
فكبار التابعين : الذين أدركوا كبار الصحابة كأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وابن مسعود ، ومعاذ بن جبل ، وأكثر روايتهم إذا سمّوا شيوخهم عن الصحابة ، وهؤلاء مثل : قيس بن أبي حازم ، وسعيد بن المسيب ، ومسروق بن الأجدع ، ويندرج في جملتهم من يُطلق عليه اسم المخضرمين ، وهم التابعون الذين أدركوا الجاهلية و الإسلام ، لكنهم لم يثبت لهم شرف الصحبة ، مثل : سويد بن غفلة ، وعمر بن ميمون الأودي ، وأبي رجاء العطاردي .
فمراسيل هؤلاء الكبار أفضل من غيرهم ، واحتمال تقويتها بالمتابعات والشواهد ، أقوى وأسرع .
أمَّا الطبقة الثانية : فهم طبقة أواسط التابعين ، وهم الذين أدركوا علي بن أبي طالب ، ومن بقي حياً إلى عهده ، وبُعيده من الصحابة كحذيفة بن اليمان ، وأبي موسى الأشعري ، و أبي أيوب الأنصاري ، وعمران بن حصين ، وسعد بن أبي وقاص ، وعائشة أُمّ المؤمنين ، وأبي هريرة ، والبراء بن عازب ، وعبد الله بن عمر ، و عبد الله بن عباس ، ووقع سماعهم من بعضهم ، ومن هؤلاء التابعين الأوساط الذين أدركوا بعض هؤلاء الصحابة : الحسن البصري ، ومحمد بن سيرين ، ، وعطاء بن أبي رباح ، وطاووس اليماني ، وأبو سلمة بن عبد الرحمان ، وعامر الشعبي ، ومجاهد بن جبر .
فمراسيل هذه الطبقة دون مراسيل أصحاب الطبقة الأولى من كبار التابعين ، ولكنها تكتب للاعتبار ، وتتقوى بالمتابعات والشواهد .
أمَّا الطبقة الثالثة : وهم صغار التابعين ، وهم من أدرك وسمع ممن تأخر موته من الصحابة ، الواحد و الاثنين ، والعدد يسير ، كمن سمع من أنس بن مالك ، وسهل بن سعد ، وأبي أمامة الباهلي . ومن هؤلاء من التابعين الصغار : ابن شهاب الزهري ، وقتادة بن دعامة السدوسي ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وحُميد الطويل ، فمراسيل هؤلاء من أضعف المراسيل ، وهي أشبه أن تكون معضلة ؛ لأنَّ غالب روايات هؤلاء عن التابعين ، فإذا أرسل أحدهم فيغلب على الظن أنه أسقط من الإسناد رجلين فأكثر .
ومن أقوى المراسيل : مراسيل سعيد بن المسيب ، فقد تتبعت فوجد غالبها مسانيد ، ومن المراسيل الجيدة : مراسيل عروة بن الزبير ؛ لشدَّة تحرِّيه ، وكذلك مراسيل الحسن البصري عند بعضهم ، وكذا مراسيل عامر بن شراحيل الشعبي .
أمَّا مراسيل الصحابة : وهو ما وقع لبعض الصحابة ، ممّا لم يسمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة ، إنما سمعوه من صحابة آخرين ، وهذا يحصل لصغار الصحابة ، مثل ابن عباس ، وأنس بن مالك ، فهذا مقبول عند جمهور المحدِّثين ؛ لأنَّ ما لم يسمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة ، فإنَّما سمعوه من صحابة آخرين ، والصحابة كلّهم عدول .
افتراضي تتميم
انظر في المُرسَل :
معرفة علوم الحديث : 25 ، والكفاية : ( 58 ت ، 21 ه ) ، والتمهيد 1/19 ، ومعرفة أنواع علم الحديث : 126 ، وجامع الأصول 1/115 ، وإرشاد طلاب الحقائق 1/167 – 179 ، والمجموع شرح المهذب 1/60 ، والاقتراح : 208 ، والتقريب : 54 – 57 ، ورسوم التحديث : 68 ، والمنهل الروي : 42 ، والخلاصة : 65 ، والموقظة : 38 ، وجامع التحصيل : 23 وما بعدها ، واختصار علوم الحديث : 1/153 ، وبتحقيقي : 113 ، والبحر المحيط 4/403 ، والشذا الفياح 1/147 ، والمقنع 1/129 ، ومحاسن الاصطلاح : 57 ، وشرح التبصرة والتذكرة 1/202 ، وتنقيح الأنظار : 121 ، ونزهة النظر : 62 ، والمختصر : 128 ، وفتح المغيث 1/128 ، وألفية السيوطي : 25 – 29 ، وشرح السيوطي على ألفية العراقي : 72 ، وفتح الباقي 1/194 ، وتوضيح الأفكار 1/283 ، وظفر الأماني : 343 ، وشرح شرح نخبة الفكر : 399 ، واليواقيت والدرر 1/498 ، وقواعد التحديث : 133 ، ولمحات في أصول الحديث : 225 .
رابعاً : التدليس
هُوَ أحد الأسباب الرئيسة المهمة في علم علل الحديث ؛ لأن التدليس يكشف عَنْ سقوط راوٍ أحياناً فيكون لهذا الساقط دور في اختلاف الأسانيد والمتون أو يكون الراوي ضعيفاً ولم يتابع فيضعف الحديث من أجله ولابدّ لنا من تفصيل القَوْل في التدليس :
فالتدليس لغة : مأخوذ من الدَّلَسِ – بالتحريك – وَهُوَ اختلاط الظلام الذي هو سبب لتغطية الأشياء عن البصر . قال ابن حجر : وكأنه أظلم على الناظر لتغطية وجه الصواب فيه . ومنه التدليس في البيع ، يقال : دلس فلان على فلان ، أي : ستر عنه العيب الذي في متاعه كأنه أظلم عليه الأمر ، وأصله مما ذكرنا من الدلس .
أما في الاصطلاح ، فإن التدليس عندهم يتنوع إلى عدة أنواع :
الأول : تدليس الإسناد :
وَهُوَ أن يروي الرَّاوِي عمن لقيه ما لَمْ يسمعه مِنْهُ بصيغة محتملة .
والمراد من الصيغة المحتملة : أن لا يصرح بالسماع أَوْ الإخبار مثل : حَدَّثَنَا ، وأخبرنا وأنبأنا ، وسمعت ، وَقَالَ لنا ، وإنما يجيء بلفظ يحتمل الاتصال وعدمه ، مثل : إن ، وعن ، وَقَالَ ، وحدّث ، وروى ، وذكر ، لذا لَمْ يقبل الْمُحَدِّثُوْنَ حَدِيْث المدلس ما لَمْ يصرِّح بالسماع .
الثاني: تدليس الشيوخ :
وَهُوَ أن يأتي باسم شيخه أَوْ كنيته عَلَى خلاف المشهور بِهِ تعمية لأمره وتوعيراً للوقوف عَلَى حاله . وهذا النوع حكمه أخف من السابق ، وفي هَذَا النوع تضييع للمروي عَنْهُ وللمروي وتوعير لطريق مَعْرِفَة حالهما . ثُمَّ إن الحال في كراهيته يختلف بحسب الغرض الحامل عَلَيْهِ، إِذْ إن من يدلس هَذَا التدليس قَدْ يحمله كون شيخه الَّذِيْ غيّر سمته غَيْر ثقة ، أو أصغر من الرَّاوِي عَنْهُ ، أو متأخر الوفاة قَدْ شاركه في السَّمَاع مِنْهُ جَمَاعَة دونه ، أو كونه كثير الرِّوَايَة عَنْهُ فلا يحب تكرار شخص عَلَى صورة واحدة .
الثالث: تدليس التسوية :
وَهُوَ أن يروي عَنْ شيخه ، ثُمَّ يسقط ضعيفاً بَيْنَ ثقتين قَدْ سَمِعَ أحدهما من الآخر أو لقيه ، ويرويه بصيغة محتملة بَيْنَ الثقتين . وممن اشتهر بهذا النوع : الوليد بن مُسْلِم ، وبقية بن الوليد . وهذا النوع من التدليس يشترط فِيْهِ التحديث والإخبار من المدلس إلى آخره .
تنبيه : هذا النوع من التدليس قَدْ سماه القدماء تجويداً . فتح المغيث 1/199 ،وتدريب الرَّاوِي 1/226 ،وشرح ألفية السيوطي: 36 – أي يذكر فيه الجياد من أهل الإسناد ، أو أنه جعل ظاهر الإسناد جيداً بهذا الصنع القبيح ، أو لأن المدلس يبقي جيد رواته - . وسماه صاحب ظفر الأماني : 377 بـ : " التحسين " – أي أن المدلس يحسن ظاهر الإسناد .
وسمي هذا النوع من التدليس تسوية ؛ لأن فاعله يسقط المجروح من الإسناد من بعد شيخه ليستوي حال رجاله في الثقة .
الرابع: تدليس العطف :
وَهُوَ مثل أن يقول الرَّاوِي : حَدَّثَنَا فُلاَن وفلان ، وَهُوَ لَمْ يَسْمَع من الثاني .
الخامس: تدليس السكوت :
وَهُوَ كأن يقول الرَّاوِي: حَدَّثَنَا أَوْ سَمِعْتُ، ثُمَّ يسكت برهة ، ثُمَّ يقول: هشام بن عروة أو الأعمش موهماً أنه سَمِعَ منهما ، وليس كذلك .
السادس: تدليس القطع :
وَهُوَ أن يحذف الصيغة ويقتصر عَلَى قوله مثلاً : الزهري عَنْ أنس .
السابع: تدليس صيغ الأداء :
وَهُوَ ما يقع من الْمُحَدِّثِيْنَ من التعبير بالتحديث أَوْ الإخبار عَن الإجازة موهماً للسماع ، وَلَمْ يَكُنْ تحمله لِذَلِكَ المروي عَنْ طريق السَّمَاع .
وهذه الأنواع السبعة ليست كلها مشتهرة إنما المشتهر مِنْهَا والشائع الأول والثاني وعند الإطلاق يراد الأول . وهذا القسم هُوَ الَّذِيْ لَهُ دورٌ في الاختلافات الحديثية متوناً وأسانيد ، إِذْ قَدْ يكشف خلال البحث بَعْدَ التنقير والتفتيش عَنْ سقوط رجل من الإسناد وربما كَانَ هَذَا الساقط ضعيفاً أَوْ في حفظه شيءٌ ، أو لَمْ يضبط حديثه هَذَا .
ومن الأمثلة عَلَى ذَلِكَ ما رَوَاهُ ابن حبان في صحيحه ( 1423 ) من طريق ابن جريج ، عَنْ نافع، عَن ابن عمر ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا تَبُلْ قائماً )) .
وهذا الإسناد رجاله ثقات إلا أنَّ ابن جريج مدلسٌ وَقَدْ عنعن هنا وَلَمْ يصرح بسماعه من نافع ، وَهُوَ قَدْ سَمِعَ من نافع أحاديث كثيرة ، فهُوَ معروف
بالرواية عَنْهُ ، وروايته عَنْهُ في الكتب الستة . ولكن النقاد ببصيرتهم الناقدة
ونظرهم الثاقب كشفوا أنَّ في هَذَا السند واسطة بَيْنَ ابن جريج ونافع ، وأن ابن جريج لَمْ يسمعه من نافع مباشرة ، بَلْ سمعه من عَبْد الكريم بن أبي المخارق الضعيف ، وَقَدْ صرّح ابن جريج في بعض طرق الْحَدِيْث بهذا الساقط ، فبان تدليسه ؛ فَقَدْ رَوَى
عَبْد الرزاق في مصنفه (15924 ) – ومِنْ طريقه ابن ماجه في سننه ( 308 ) )، وأبو عوانة في مسنده (4/25 ) ، وابن عدي في الكامل ( 7/40 ) ، وتمام
الرازي في : الروض البسام بترتيب وتخريج فوائد تمام ( 1/203 ( 148 ) ) ، والحاكم في : المستدرك ( 1/158 ) ، والبيهقي في السنن الكبرى ( 1/102 ) - عَن ابن جريج ، عَنْ عَبْد الكريم بن أبي المخارق ، عَنْ نافع ، بِهِ .
ومن بدائه علم الْحَدِيْث أن حَدِيْث الثقة ليس كله صحيحاً ، كَمَا أنّ حَدِيْث الضعيف ليس كله ضعيفاً ، ومعرفة كلا النوعين من أحاديث الفريقين ليس بالأمر اليسير إنما يطلع عَلَى ذَلِكَ الأئمة النقاد الغواصون في أعماق ما يكمن في الروايات من صحة أو خطأ ، لذا فتّش العلماء في حَدِيْث ابن أبي المخارق هل توبع عَلَيْهِ ، أم أخطأ فِيْهِ ؟ وخالف الثقات الأثبات أم انفرد ؟ فنجدهُمْ قَدْ صرّحوا بخطأ ابن أبي المخارق لمخالفته الثقات الأثبات في ذَلِكَ ، قَالَ البوصيري في مصباح الزجاجة ( 1/45 ) – بَعْدَ أن ضعّف حَدِيْث ابن أبي المخارق - : (( عارضه خبر عبيد الله بن عمر العمري الثقة المأمون المجمع عَلَى ثقته ، ولا يُغتر بتصحيح ابن حِبّان هَذَا الخبر من طريق هشام بن يوسف ، عَن ابن جريج عَنْ نافع ، عَن ابن عمر . فإنه قَالَ بعده : أخاف أن يَكُوْن ابن جريج لَمْ يسمعه من نافع ، وَقَدْ صحّ ظنُّه ، فإنّ ابن جريج إمّا سمعه من ابن أبي المخارق كَمَا ثبت في رِوَايَة ابن ماجه هَذِهِ والحاكم في المستدرك واعتذر عَنْ تخريجه أنه إنّما أخرجه في المتابعات )) .
وَقَالَ الترمذي : (( إنما رفع هَذَا الْحَدِيْث عَبْد الكريم بن أبي المخارق ، وَهُوَ ضعيف عِنْدَ أهل الْحَدِيْث ، ضعّفه أيوب السختياني وتكلم فِيْهِ . وروى عبيد الله ، عَنْ نافع عَن ابن عمر قَالَ : قَالَ عمررضي الله عنه: ما بلتُ قائِماً منذُ أسلَمْتُ . وهذا أصح من حَدِيْث عَبْد الكريم )) الجامع الكبير للترمذي 1/61-62 عقيب ( 12 ) .
أقول: رِوَايَة عبيد الله الموقوفة أخرجها ابن أبي شيبة في مصنفه (1324) ، والبزار في مسنده (وَهُوَ المسمى بـ : البحر الزخار ( 149 ) ، والحديث أيضاً في كشف الأستار ( 244 ) ) من طريق عبيد الله بن عمر، عَنْ نافع ، عَن ابن عمر ، عَنْ عمر موقوفاً ، وَهُوَ الصواب.
ومما يدل عَلَى عدم صحة حَدِيْث ابن أبي المخارق أن الحافظ ابن حجر قَالَ :
(( وَلَمْ يثبت عَن النَّبِيّ في النهي عَنْه شيء )) فتح الباري 1/330 .
بَعْدَ هَذَا العرض السريع بان لنا واتضح أن التدليس سبب من أسباب الاختلافات في الأسانيد والمتون ؛ إِذْ إنه قَدْ يسفر عَنْ سقوط رجلٍ من الإسناد فيخالف الرَّاوِي غيره من الرُّوَاة .
وما دمت قد مهدت عن التدليس وأنواعه فلا بد أن أذكر أموراً أخرى تتعلق بالتدليس ، وهي كما يأتي :
أولاً . حكم التدليس ، وحكم من عرف بِهِ :
مضى بنا في تعريف التدليس لغة أنّ مجموع معانيه تؤول إلى إخفاء العيب ، وليس من معانيه الكذب ، ومع ذَلِكَ فَقَد اختلف العلماء في حكمه وحكم أهله .
فَقَدْ ورد عن بعضهم ومنهم - شعبة - التشديد فِيْهِ ، فروي عَنْهُ أنه قَالَ : (( التدليس أخو الكذب )) ، وَقَالَ أَيْضاً : (( لأنْ أزني أحب إليّ من أن أدلس )) .
ومنهم من سهّل أمره وتسامح فِيْهِ كثيراً ، قَالَ أبو بكر البزار : (( التدليس ليس بكذب ، وإنما هُوَ تحسين لظاهر الإسناد )) .
وَالصَّحِيْح الَّذِيْ عليه الجمهور أنه ليس بكذب يصح به القدح في عدالة الرَّاوِي حَتَّى نرد جميع حديثه ، وإنما هُوَ ضَرْبٌ من الإيهام ، وعلى هَذَا نصّ الشَّافِعِيّ –رحمه الله– فَقَالَ: (( ومن عرفناه دلّس مرة فَقَدْ أبان لنا عورته في روايته، وليست تِلْكَ العورة بالكذب فنرد بِهَا حديثه ، ولا النصيحة في الصدق ، فنقبل مِنْهُ ما قبلنا من أهل النصيحة في الصدق) ) .
ويمكن حمل التشدد الوارد عن شعبة عَلَى (( المبالغة في الزجر عَنْهُ والتنفير )) .
وإذا تقرر هَذَا ، فما حكم حَدِيْث من عرف بِهِ ؟ للعلماء فِيْهِ أربعة مذاهب :
الأول : لا تقبل رِوَايَة المدلس ، سواء صرح بالسماع أم لا ، حكاه ابن الصَّلاَحِ عن فريق من أهل الْحَدِيْث والفقه ، وهذا مبني عَلَى القَوْل بأنّ التدليس نفسه جرح تسقط بِهِ عدالة من عُرِف بِهِ . وهذا الَّذِي استظهره عَلَى أصول مذهب الإمام مالك القاضي عَبْد الوهاب في الملخص .
الثاني : قبول رِوَايَة المدلس مطلقاً ، وَهُوَ فرع لمذهب من قَبِلَ المرسل ونقله الْخَطِيْب البغدادي عن جمهور من قَبِلَ المراسيل ، وحكاه الزركشي عن بعض شارحي أصول البزدوي من الحنفية . وبنوا هَذَا عَلَى ما بنوا عَلَيْهِ قبول المرسل ؛ من أنّ إضراب الثقة عن ذكر الرَّاوِي تعديل لَهُ ، فإن من مقتضيات ثقته التصريح باسم من روى عَنْهُ إذا كَانَ غَيْر ثقة .
الثالث : إذا كَانَ الغالب عَلَى تدليسه أن يَكُون عن الثقات فهو مقبول كيفما كانت صيغة التحديث ، وإن كَانَ عن غَيْر الثقة هُوَ الغالب رد حديثه حَتَّى يصرح بالسماع ، حكاه الْخَطِيْب عن بعض أهل العلم ، ونقله الزركشي عن أبي الفتح الأزدي .
الرابع : التفصيل بَيْنَ أن يروي بصيغة مبينة للسماع، فيقبل حديثه، وبين أن يروي بصيغة محتملة للسماع وغيره فلا يقبل. وهذا الَّذِي عَلَيْهِ جمهور أَهْل الْحَدِيْث وغيرهم وصححه جمع ، مِنْهُمْ : الْخَطِيْب البغدادي وابن الصَّلاَحِ وغيرهما وهو الحق .
ثانياً . حكم الْحَدِيْث المدلس :
لما كَانَ في حَدِيْث المدلس شبهة وجود انقطاع بَيْنَ المدلس ومن عنعن عَنْهُ ، بحيث قَدْ يَكُوْن الساقط شخصاً أو أكثر ، وَقَدْ يَكُوْن ثقة أَوْ ضعيفاً . فلما توافرت هَذِهِ الشبهة اقتضى ذَلِكَ الحكم بضعفه .
لكن المدلس إذا صرح بالسماع قبل حديث ، مثاله : ما رواه محمد بن إسحاق ، عن يعقوب بن عتبة ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن عائشة ، قالت : رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من البقيع ، فوجدني وأنا أجد صداعاً في رأسي . وأنا أقول : وارأساه ، فقال : بل أنا وارأساه ثم قال : ما ضرك لو مت قبلي ، فقمت عليك فغسلتك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك .
فمدار هذا الحديث على محمد بن إسحاق ، وهو مدلس ، وقد عنعن في بعض الطرق ، ولذا ضعف بعض العلماء الحديث بذلك ، لكنه صرح بالسماع عند البيهقي في السنن الكبرى 3/396 فانتفت شبهة تدليسه فقبل حديثه .
ملاحظة : المدلس إذا دلس قد يسقط واحداً وقد يسقط أكثر من واحد .
وأسباب التدليس متعددة ، فمنهم من صنع ذلك من باب إحسان الظن بمن أسقطوه ، وإن كان مجروحاً عند غيرهم ، وأسقطوه تمشية لروايته .
ومنهم دلس لصغر سن شيخه ، ومنهم صنع ذلك لكراهة ذكره ؛ لسوء حاله من جهة أمر لا يعود إلى نفس حديثه .
ومنهم من صنع ذلك لضعف شيخه ، ومنهم من صنع ذلك لطلب العلو ، ومنهم من يصنع ذلك إذا شورك عن ذلك الشيخ من قبل من هم دونه في السن أو غير ذلك .
ومنهم من صنع ذلك لكثرته عن ذلك الشيخ
انظر في التدليس :
معرفة علوم الحديث : 103 ، والمدخل إلى الإكليل : 20 ، والكفاية : (508 ت ، 355 ه ) ، والتمهيد 1/15 ، ومعرفة أنواع علم الحديث : 156 ، وجامع الأصول 1/167 ، والإرشاد 1/205 ، والتقريب : 63 ، والاقتراح : 217 ، ورسوم التحديث : 74 ، والمنهل الروي : 72 ، والخلاصة : 74 ، والموقظة : 47 ، وجامع التحصيل : 97 ، واختصار علوم الحديث 1/172 ، وبتحقيقي : 129 ، والشذا الفياح 1/173 ، والمقنع: 1/154 ، ومحاسن الاصطلاح : 77 ، وشرح التبصرة والتذكرة 1/234 ، وتنقيح الأنظار : 140 ، ونزهة النظر : 65 ، ومقدمة طبقات المدلسين : 13 ، والمختصر : 132 ، وفتح المغيث 1/169 ، وألفية السيوطي : 33 ، وشرح السيوطي على ألفية العراقي : 84 ، وفتح الباقي 1/224 ، وتوضيح الأفكار 1/346 ، وظفر الأماني : 373 ، وشرح شرح نخبة الفكر : 416 ، واليواقيت والدرر 2/10 ، وقواعد التحديث : 132 ، ولمحات في أصول الحديث : 237 .
افتراضي الشاذ
إن الاختلافات الواردة في المتن أو الإسناد تتفرع أنواعاً متعددة ، لكل نوع اسمه الخاص به ، ومن تلك الاختلافات هو أن يخالف الثقة ثقات آخرين ، مثل هذه المخالفة تختلف ، ربما تكون من ثقة يخالف ثقة آخر ، أو من ثقة يخالف عدداً من الثقات ، وإذا كان المخالف واحداً وليس جمعاً فيشترط فيه أن يكون أوثق ممن حصل فيه الاختلاف ، وهذا النوع من المخالفة يطلق عليه عند علماء المصطلح الشاذ ، وهو: أن يخالف الثقة من هو أوثق منه عدداً أو حفظاً .
وهذا التعريف مأخوذ من تعريف الشافعي للشاذ ، فقد روي عن يونس بن
عبد الأعلى ، قال: قال لي الشافعي -رحمه الله-: (( ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يروي غيره ، إنما الشاذ : أن يروي الثقة حديثاً يخالف ما روى الناس )) .
والشاذ في اللغة : المنفرد ، يقال : شذّ يَشُذُّ ويشِذُّ – بضم الشين وكسرها – أي : انفرد عن الجمهور ، وشذَّ الرجلُ: إذا انفرد عن أصحابه. وكذلك كل شيء منفرد فهو شاذ . ومنه : هو شاذ من القياس ، وهذا مما يشذ عن الأصول ، وكلمة شاذة…وهكذا .
إذن : الشذوذ هو مخالفة الثقة للأوثق حفظاً أو عدداً ، وهذا هو الذي استقر عليه الاصطلاح (وإنما قلنا هكذا ؛ لأن للشاذ تعريفين آخرين ، أولهما : وهو ما ذكر الحاكم النيسابوري – أن الشاذ هو الحديث الذي ينفرد به ثقة من الثقات ، وليس له أصل متابع لذلك الثقة . معرفة علوم الحديث : 119 .
وثانيهما : وهو ما حكاه الحافظ أبو يعلى الخليلي القزويني من أن الذي عليه حفاظ الحديث أن الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد يشذ بذلك شيخ ثقة كان أو غير ثقة ، فما كان عن غير ثقة فمتروك لا يقبل ، وما كان عن ثقة يتوقف فيه ولا يحتج به . الإرشاد 1/176-177 ) .
قال الحافظ ابن حجر : (( يختار في تفسير الشاذ أنه الذي يخالف رواية من هو أرجح منه )) .
ثم إن مخالفة الثقة لغيره من الثقات أمر طبيعي إذ إن الرواة يختلفون في مقدار حفظهم وتيقظهم وتثبتهم من حين تحملهم الأحاديث عن شيوخهم إلى حين أدائها . وهذه التفاوتات الواردة في الحفظ تجعل الناقد البصير يميز بين الروايات ، ويميز الرواية المختلف فيها من غير المختلف فيها ، والشاذة من المحفوظة ، والمعروفة من المنكرة .
ومن أمثلة الشاذ ما رواه عبد الواحد بن زياد قال : حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله : (( إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه )) فقد أخطأ عبد الواحد بن زياد وشذّ حينما جعل الحديث من قول النبي والصواب أنه من فعله هكذا رواه سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه عند ابن ماجه ( 1199 )، والنسائي في الكبرى ( 1456 )، وكذا رواه محمد بن إبراهيم ، عن أبي صالح عند البيهقي 3/45 .
وقد صرح جمع من الأئمة بشذوذ رواية عبد الواحد بن زياد منهم البيهقي في السنن الكبرى 3/45 فقال عن رواية الفعل: (( وهذا أولى أن يكون محفوظاً لموافقته سائر الروايات عن عائشة وابن عباس )) ، وكذا نقل الحكم بالشذوذ ابن القيم عن شيخه ابن تيمية في زاد المعاد 1/308 فقال : (( هذا باطل وليس بصحيح ، وإنما الصحيح عنه الفعل لا الأمر بها ، والأمر تفرد به عبد الواحد بن زياد وغلط فيه )) . وبنحو هذا قال الذهبي في الميزان 2/672 .
وهذا الشذوذ في جميع المتن ، وهناك شذوذ ببعض المتن كزيادة التسمية في حديث أنس في الوضوء ؛ فقد روى معمر بن راشد ، عن ثابت وقتادة ، عن أنس ، قال: نظر بعض أصحاب النَّبي وضوءاً فلم يجده ، فقال النَّبي : هاهنا ماء ، فرأيت النبي وضع يده في الإناء الذي فيه الماء ، ثم قال : توضئوا بسم الله ، فرأيت الماء يفور من بين أصابعه ، والقوم يتوضئون ، حتى توضئوا من عند آخرهم .
فمعمر بن راشد ثقة ثبت فاضل ، وشيخاه في هذا الحديث ثابت بن أسلم البناني ، وهو ثقة عابد ، وقتادة بن دعامة السدوسي ، وهو ثقة ثبت . إلا أنَّ معمر بن راشد قد أخطأ بذكر زيادة : (( بسم الله )) في الحديث ؛ إذ إنَّ الجمع من الرواة عن ثابت وقتادة لم يذكروا هذه الزيادة التي تفرد بها معمر مما يدل على خطئه ووهمه بها ؛ وذلك أنَّ سليمان بن المغيرة الثقة ، وحمّاد بن زيد الثقة وحمّاد بن سلمة الذي هو أثبت الناس في ثابت ، ثلاثتهم رووه عن ثابت ، عن أنس ، به ، ولم يذكروا زيادة (( بسم الله )) .
وكذلك روى الحديث عن قتادة جماعة لم يذكروا الزيادة ؛ فقد رواه سعيد بن أبي عروبة – وهو أثبت الناس في قتادة – وهمّام بن يحيى الثقة ، وهشام الدَّستوائي الثقة الثبت ، وشعبة بن الحجّاج الثقة الحافظ المتقن ، أربعتهم رووه عن قتادة ، عن أنس ، به ، ولم يذكروا هذه الزيادة ؛ إذن فليس من المعقول أن يغفل جميع الرواة من أصحاب ثابت و قتادة ، فيغيب عنهم حفظ هذه الزيادة ، ثم يحفظها معمر بن راشد .
ثمّ إنَّ ثابتاً و قتادة قد توبعا على رواية الحديث ، وليس فيه ذكر الزيادة ، تابعهما عليه إسحاق بن عبد الله – وهو ثقة حجّة - ، وحميد الطويل ، وهو ثقة ، والحسن البصري الثقة الفاضل .
فغياب زيادة : (( بسم الله )) عند هذه الكثرة يسلط الضوء على أنَّ الوهم في ذكرها من معمر ، والله أعلم .
ومن الأمثلة لحديث ثقة خالف في ذلك حديث ثقة أوثق منه :
ما رواه معمر بن راشد ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عبد الله بن أبي قتادة ، عن أبيه ، قال : (( خرجت مع رسول الله زمن الحديبية ، فأحرم أصحابي ولم أحرم ، فرأيت حماراً فحملت عليه ، فاصطدته ، فذكرت شأنه لرسول الله ، وذكرت أني لم أكن أحرمت ، وأني إنما اصطدته لك ؟ فأمر النَّبِيّ أصحابه فأكلوا ، وَلَمْ يأكل مِنْهُ حِيْنَ أخبرته أني اصطدته لَهُ )) .
فهذا الحديث يتبادر إلى ذهن الناظر فيه أول وهلة أنه حديث صحيح، إلا أنه بعد البحث تبين أن معمر بن راشد – وهو ثقة – قد شذ في هذا الحديث فقوله : (( إنما اصطدته لك )) ، وقوله : (( ولم يأكل منه حين أخبرته أني اصطدته له )). جملتان شاذتان شذ بهما معمر بن راشد عن بقية الرواة .
قال ابن خزيمة : (( هذه الزيادة : (( إنما اصطدته لك )) ، وقوله : (( ولم يأكل منه حين أخبرته أني اصطدته لك )) ، لا أعلم أحداً ذكره في خبر أبي قتادة غير معمر في هذا الإسناد ، فإن صحت هذه اللفظة فيشبه أن يكون أكل من لحم ذلك الحمار قبل [أن] يعلمه أبو قتادة أنه اصطاده من أجله، فلما أعلمه أبو قتادة أنه اصطاده من أجله امتنع من أكله بعد إعلامه إياه أنه اصطاده من أجله ؛ لأنه قد ثبت عنه أنه قد أكل من لحم ذلك الحمار )) .
هكذا جزم الحافظ ابن خزيمة بتفرد معمر بن راشد بهاتين اللفظتين ، وهو مصيب في هذا ، إلا أنه لا داعي للتأويل الأخير لجزمنا بعدم صحة هاتين اللفظتين – كما سيأتي التدليل عليه - .
وقال أبو بكر بن زياد النيسابوري - شيخ الدارقطني - : (( قوله : " اصطدته لك " ، وقوله: " ولم يأكل منه " ، لا أعلم أحداً ذكره في هذا الحديث غير معمر )) .
وقال البيهقي: (( هذه لفظة غريبة لم نكتبها إلا من هذا الوجه ، وقد روينا عن أبي حازم بن دينار ، عن عبد الله بن أبي قتادة في هذا الحديث أن النبي أكل منها ، وتلك الرواية أودعها صاحبا الصحيح كتابيهما دون رواية معمر وإن كان الإسنادان صحيحين )) .
وقال ابن حزم : (( لا يخلو العمل في هذا من ثلاثة أوجه . إما أن تغلب رواية الجماعة على رواية معمر لا سيما وفيهم من يذكر سماع يحيى من أبي قتادة ، ولم يذكر معمراً ، أو تسقط رواية يحيى بن أبي كثير جملة ؛ لأنه اضطرب عليه ، ويؤخذ برواية أبي حازم وأبي محمد وابن موهب الذين لم يضطرب عليهم؛ لأنه لا يشك ذو حسٍّ أن إحدى الروايتين وهم ، إذ لا يجوز أن تصح الرواية في أنه عليه السلام أكل منه ، وتصح الرواية في أنه عليه السلام لم يأكل منه ، وهي قصة واحدة في وقت واحد في مكان واحد في صيد واحد )) .
وسأشرح الآن شذوذ رواية معمر ، فأقول :
خالف معمر رواية الجمع عن يحيى ، فقد رواه هشام الدستوائي – وهو ثقة ثبت -، وعلي بن المبارك -وهو ثقة -، ومعاوية بن سلام -وهو ثقة -، وشيبان بن عبد الرحمان -وهو ثقة -، فهؤلاء أربعتهم رووه عن يحيى بن أبي كثير ، ولم يذكروا هاتين اللفظتين .
كما أن الحديث ورد من طريق عبد الله بن أبي قتادة من غير طريق يحيى بن أبي كثير ، ولم تذكر فيه اللفظتان مما يؤكد ذلك شذوذ رواية معمر بتلك الزيادة ؛ فَقَدْ رَوَاهُ عثمان بن عَبْد الله بن موهب – وَهُوَ ثقة - ، وأبو حازم سلمة بن دينار
- وهو ثقة - ، وعبد العزيز بن رفيع –وهو ثقة - ، وصالح بن أبي حسان – وهو صدوق - ؛ فهؤلاء أربعتهم رووه عن عبد الله بن أبي قتادة ، عن أبيه ، ولم يذكروا هاتين اللفظتين ، كما أن هذا الحديث روي من طرق أخرى عن أبي قتادة ، وليس فيه هاتان اللفظتان : فقد رواه نافع مولى أبي قتادة -وهو ثقة -، وعطاء بن يسار - وهو ثقة - ، ومعبد بن كعب بن مالك - وهو ثقة - ، وأبو صالح مولى التوأمة - وهو مقبول - فهؤلاء أربعتهم رووه دون ذكر اللفظتين اللتين ذكرهما معمر ، وهذه الفردية الشديدة مع المخالفة تؤكد شذوذ رواية معمر لعدم وجودها عند أحدٍ من أهل الطبقات الثلاث .
والذي يبدو لي أن السبب في شذوذ رواية معمر بن راشد دخول حديث في حديث آخر ؛ فلعله توهم بما رواه هو عن الزهري، عن عروة، عن يحيى بن عبد الرحمان بن حاطب، عن أبيه أنه اعتمر مع عثمان في ركب ، فأهدي له طائر ، فأمرهم بأكله ، وأبى أن يأكل ، فقال له عمرو بن العاص : أنأكل مما لست منه آكلاً ، فقال : إني لست في ذاكم مثله ، إنما اصطيد لي وأميت باسمي .
فربما اشتبه عليه هذا الحديث بالحديث السابق ، والله أعلم .
افتراضي تابع للشاذ
للفائدة ينظر في الشاذ :
معرفة علوم الحديث : 119 ، ومعرفة أنواع علم الحديث : 163 ، وجامع الأصول 1/177 ، والإرشاد 1/213 ، والتقريب : 67 ، والاقتراح : 211 ، ورسوم التحديث : 75 ، والمنهل الروي : 50 ، والخلاصة : 69 ، والموقظة : 42 ، ونظم الفرائد : 361 ، واختصار علوم الحديث 1/179 ، وبتحقيقي : 136 ، والشذا الفياح 1/180 ، والمقنع 1/165 ، ومحاسن الاصطلاح : 82 ، وشرح التبصرة والتذكرة 1/245 ، وتنقيح الأنظار : 150 ، ونزهة النظر : 84 ، والمختصر : 124 ، وفتح المغيث 1/ 185 ، وألفية السيوطي : 39 ، وشرح السيوطي على ألفية العراقي : 87 ، وفتح الباقي 1/232 ، وتوضيح الأفكار 1/377 ، وظفر الأماني : 356 ، وشرح شرح نخبة الفكر : 330 ، واليواقيت والدرر 1/420 ، وقواعد التحديث : 130 ، ولمحات في أصول الحديث : 253 ، وأثر اختلاف الأسانيد والمتون في اختلاف الفقهاء : 455
افتراضي الحديث المعل
الحديث المُعل
تعريف العلة لغة
عل - بلام مشددة مفتوحة -: متعد و لازم ، نقول فيهما : عل يعل – بضم العين و كسرها - و مصدرهما: علا .
و أعله الله : أي : أصابه بعلة .
و العلة : المرض ، و حدث يشغل صاحبه عن وجهه ، كأن تلك العلة صارت شغلاً ثانياً منعه من شغله الأول .
و علله بالشيء تعليلاً ، أي: لهاه به كما يعلل الصبي بشيء من الطعام عن اللبن ( 1 ) .
قال ابن فارس : ((عل : أصول ثلاثة صحيحة :
أحدها : تكرار أو تكرير ، و الثاني عائق يعوق ، و الثالث : ضعف في الشيء :
فالأول العلل و هو الشربة الثانية ، و يقال علل بعد نهل و يقال أعل القوم إذا شربت إبلهم عللا .
قال ابن الأعرابي في المثل : ما زيارتك إيانا إلا سوم عالة أي : مثل الإبل التي تعل .و إنما قيل هذا ؛ لأنها إذا كرر عليها الشرب كان أقل كشربها الثاني .
و الثاني :العائق يعوق ؛ قال الخليل : العلة حدث يشغل صاحبه عن وجهه ، و يقال : اعتله كذا أي اعتاقه ، قال : فأعتله الدهر و للدهر علل .
و الثالث : العلة المرض، وصاحبها معتل، قال ابن الأعرابي : عل المريض يعل فهو عليل )) ( 2 ) .
و المعل : اسم مفعول من أعله : أنزل به علة فهو معل ، يقولون : لا أعلك الله أي لا أصابك بعلة ، و الحديث الذي اكتشفت فيه علة قادحة هو معلٌ ؛ لأنه ظهر أنه مصاب بتلك العلة ( 3 ) .
و بهذا يتضح أن أقرب المعاني اللغوية لمعنى العلة في اصطلاح المحدثين هو : المرض ؛ و ذلك لأنَّ الحديث الذي ظاهره الصحة إذا أكتشف الناقد فيه علة قادحة فإنَّ ذلك يمنع من الحكم بصحته .
و قد أطلق بعض العلماء على الحديث ((المعل)) اسم : الحديث ((المعلول)) و أطلق بعضهم عليه اسم الحديث: ((المعلل)).
و قد أعترض النووي على تسميته بـ((المعلول)) و قال : ((هو لحن)) ( 4 ).
و ذلك لأنه مأخوذ من : أعله : يعله ، فاسم المفعول منه : معل . مثل : أضره يضره ، فاسم المفعول منه : مضر ( 5 ) .
و قد اعترض السيوطي على التسميتين ؛ فأيد النووي في قوله : إن التسمية بـ (المعلول)) لحنٌ ، و قال : لأن اسم المفعول من أعل الرباعي لا يأتي على مفعول .
ثم اعترض على التسمية بـ ((معلل)) فقال : الأجود فيه ((معل)) بلام واحدة ؛ لأنه مفعول أعله قياساً ، و أما((معلل)) فمفعول علل ؛ و هو لغة بمعنى : ألهاه بالشيء و شغله ، و ليس هذا الفعل بمستعمل في كلامهم ( 6 ) .
( 1 ) مختار الصحاح : 451 .
( 2 ) معجم مقاييس اللغة : 4/13-15 .
( 3 ) لسان العرب مادة ( علل ) .
( 4 ) التقريب مع التدريب 1/251 .
(5) شرح البيقونية في مصطلح الحديث للعلامة ابن عثيمين 115 .
( 6) تدريب الراوي 1/251 , قال العراقي في شرح التبصرة 1/225 : ((والأجود في تسمية المعل)) .
الحقيقة إن كتاب " معرفة أنواع علم الحديث " لابن الصلاح ثم كتاب " شرح التبصرة والتذكرة " ثم كتاب " النكت على كتاب ابن الصلاح " ثم كتاب " النكت الوفية بما في شرح الألفية " للبقاعي ، وهذه الكتب ثلاثتها تدور في فلك واحد فالثلاثة الأخيرة متعلقة بخدمة الكتاب الأول ، ومؤلفو الكتب الثلاثة الأخيرة متسلسون بالتتلمذ فالعراقي صاحب التبصرة والشرح شيخ لابن حجر وابن حجر شيخ للبقاعي وكل متأخر منهم متتلمذ على الأول بنفس العلم والفن ، فكانت هذه الكتب الأربعة نتاج جهابذة الفن لسنين طويلة ، وكنت قد كتبت عن النكت الوفية في هذا الموقع ما سأعيد نسخه الآن ، بصفتي أني حققت الكتب الأربعة السابقة وكلها في الأسواق إلا نكت الحافظ ابن حجر فما زال حبيساً في دار الميمان ، وقلت فيما سبق :
لا شك أن من أحسن كتب مصطلح الحديث كِتابَ الحافظ أبي عَمْرو عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَانِ الشهرزوري ( ت 643 ه ) المسمى "مَعْرِفَة أنواع علم الحَدِيث" ، قَالَ الحافظ ابن حَجَر : (( هذب فنونه وأملاه شيئاً بعد شيء ، فلهذا لَمْ يحصل ترتيبه عَلَى الوضع المتناسب ، واعتنى بتصانيف الخَطِيب المتفرقة فجمع شتات مقاصدها وضم إليها من غيرها نخب فوائدها ، فاجتمع فِي كتابه مَا تفرق فِي غيره ، فلهذا عكف النَّاس عَلَيْهِ ، وساروا بسيره ، فلا يحصى كم ناظم لَهُ ومُخْتَصَر ومستدرك عَلَيْهِ ومقتصر ومعارض لَهُ ومنتصر)) (( نزهة النَّظَرِ : 46-51 )) .
وكَانَ من أحسن تِلْكَ الكتب التي اعتنت بكتاب ابن الصلاح كِتَابُ الحافظ العراقي " شرح التبصرة والتذكرة " ، إذ نظم الحافظ العراقي كِتَاب ابن الصلاح بألفية من الشعر سماها : " التبصرة والتذكرة " ثُمَّ شَرح الألفية بكتابه : " شَرْح التبصرة والتذكرة " . ومنذ ظهور ذَلِكَ الكتاب النفيس اهتم العلماء بهذَا النظم والشرح .
ومن أولئك الذين اعتنوا بـ"شرح التبصرة والتذكرة " الحافظ ابن حَجَر العسقلاني ، وكتاب النكت الوفية ، إنما هُوَ من نتاج ابن حَجَر ، جمعه ورتبه تلميذه النجيب البقاعي وأضاف عَلَيْهِ ؛ حَتَّى خرج بحلة طيبة نافعة ؛ إذ صرّح البقاعيُّ نفسُهُ فِي أول مقدمته فَقَالَ : (( قيّدتُ فِيهَا مَا استفدته من تحقيق تلميذه ، شيخنا شيخ الإسلام حافظ العصر أبي الفضل شِهَابِ الدِّين أحمد بن عَلَيِّ بن حَجَر الكناني العسقلاني ، ثُمَّ المصري الشَّافِعِيّ قاضي القضاة بالديار المصرية أيام سماعي لبحثها عَلَيْهِ ، بارك الله فِي حياته وأدام عموم النفع ببركاته سميتها "النكت الوفية بما فِي شَرْح الألفية" ، واعلم أنَّ مَا كَانَ فيها من بحثي صدرته فِي الغالب بقلت ، وختمته بقولي : والله أعلم …)) (ويظهر لمن يطالع الكتاب أن ما صدره بـ ( قلت ) ، وختمه بـ ( الله أعلم ) لا يمثل عُشر الكتاب ) . ومن يطالع الكتاب لأول وهلة يجد أن مَا لَمْ يصدره بـ : (( قُلْتُ )) أكثر بكثير مِمَّا صدره بـ (( قلت )). مِمَّا يدلنا عَلَى أنَّ غالب الكتاب منقولٌ عَنْ لسان الحافظ ابن حَجَر زيادة عَلَى النصوص الكثيرة التي صرح فِيهَا بالنقل عَنْهُ .
ولأهمية هَذَا الكتاب ونفاسته ومعرفتي بقيمته العلمية من خلال تحقيقينا
" لشرح التبصرة والتذكرة " أردت إخراج هَذَا الكتاب من حيز المخطوط إِلىَ
عالم المطبوعات ، وقد منّ الله عَلَيَّ بأن وقفت عَلَى أربع نسخ خطيّة من الكتاب . إحداهما نسخة نفيسة مقروءة عَلَى المؤلف ، وعليها خطه فِي مواضع كثيرة من حواشي المخطوط ، وقد كتبها الشيخ العالم شِهَاب الدِّين أحمد بن مُحَمَّد بن عُمَرَ الحمصي سنة (880ه ) وغيرها من النسخ الخطية التي تم الحديث عنها في مقدمة الكتاب ، وفي هذه العجالة نماذج من فوائد الكتاب تفصح عن مضمونه ، والله ولي التوفيق .
1- تضمن الكتاب تعاريف مهمة مثل تعريف الحديث الحسن لغيره : 1 / 76 : (( فإنَّ الحسنَ لغيرهِ هو مالهُ سندانِ فأكثرُ ، كلُ ضعيفٍ متماسكٍ فهوَ موصوفٌ بالضعفِ قبلَ معرفةِ ما يعضدهُ مطلقاً ، وبعد ذَلِكَ باعتبارِ كل سَندٍ على انفرادهِ ، وبالحسنِ باعتبارِ المجموعِ )) .
2- التحرير لمسائل شائكة 1 / 94-96 : (( قولهُ : ( الأستاذ أبو منصورٍ التميمي ) (شرح التبصرة والتذكرة 1/ 107 ) أنهُ أجلُّ الأسانيدِ هذا مُسَلَّمٌ ، لكنْ لا ينهضُ دليلاً على الأصحيةِ ؛ لأنها أخصُّ ، والأجليةُ تكونُ مِنْ / 15ب / جهاتٍ عديدةٍ ، والشافعيُّ -رحمهُ اللهُ-–وإنْ كانَ قد حازَ الكمالَ في شروطِ الصحةِ، وزادَ على ذَلِكَ بما آتاهُ اللهُ تعالى منَ العلمِ الذي لا يجارى فيهِ ، والفطنةِ التي كأنها الكشفُ ، لكنْ غيرهُ يشاركهُ في الضبطِ الذي هوَ محطُّ الصحةِ ، ويزيدُ بكثرةِ ممارسةِ حديثِ مالكٍ ، فقالَ يحيى بنُ معينٍ : (( أثبتُ الناسِ في مالكٍ
القعنبيُّ )) (تقريب التهذيب 3620 )، أي : باعتبارِ قدرٍ زائدٍ على كمالِ الضبطِ وهو طولُ الملازمة لهُ ، وكثرةُ الممارسةِ لحديثهِ ، فالشافعيُّ –-رحمهُ اللهُ- أخذَ عن مالكٍ في أوائلِ عمرهِ ، وكانتْ قراءتهُ عليهِ مِنْ أوائلِ قراءتهِ للحديثِ ، ولمْ يلازمهُ ملازمةَ القعنبيِّ وابنِ
وهبٍ ، ولا قريباً منها .
قلتُ : فقولُ البلقينيِّ في كتابهِ " محاسنِ الاصطلاحِ " : (( لا يقالُ : فالقعنبيُّ –وابنُ وهبٍ لهما القعددُ في الروايةِ عن مالكٍ ؛ لأنا نقولُ : وأينَ تقعُ رتبتهما مِنْ رتبة الإمام الشافعيِّ )) ، فيهِ نظرٌ ؛ لما علمتَ من أَنَّ الترجيحَ فيهما إنما هوَ باعتبارِ طولِ الملازمةِ ، وكثرةِ الممارسةِ ، وهذا لا ينقصُ مِنْ مقدارِ الشافعيِّ . وأما زيادةُ إتقانِ الشافعيِّ فلا يشك فيها مَنْ لهُ علمٌ بأخبارِ الناسِ ، فقدْ كانَ أكابرُ المحدّثينَ يأتونهُ، فيذاكرونهُ بأحاديثَ أشكلتْ عليهم ، فيبينُ لهم ما أشكلَ، ويوقفهم على عللٍ غامضةٍ ، فيقومونَ وهم يتعجبونَ منهُ ، كما هوَ مشهورٌ في ترجمتهِ ، وقالَ الإمامُ أحمدُ : (( سمعتُ " الموطأَ " منَ الشّافعيِّ )) ، وذَلِكَ بعدَ سماعهِ لهُ مِنْ عبدِ الرحمانِ بنِ مهدي ، ووجود الرواةِ لهُ عنْ مالكٍ بكثرةٍ ، وقالَ : (( سمعتهُ منهُ لأنيِّ رأيتهُ فيهِ ثبتاً ، فعللَ إعادتهُ لسماعهِ وتخصيصها بالشافعي بأمرٍ يرجعُ إلى الثبتِ )) فتعليله بذلكَ أقلُ ما يفهمُ منهُ : أَنَّ الشّافعيَّ مساوٍ لابنِ مهديٍّ في الثبتِ في حديثِ مالكٍ إنْ لم نقلْ : إنَّهُ يقتضي زيادتهُ عليهِ في الثبتِ ، إذ لو كانَ مساوياً
/ 16 أ / لكانتِ الإعادةُ تحصيلاً للحاصلِ ، وقولُ أحمدَ : (( رأيتهُ فيهِ ثبتاً )) وَرَدَ على سؤالٍ ، فلا يكونُ لتقييدهِ بقيد مفهوماً .
قالَ البلقينيُّ : (( وأبو حنيفةَ وإنْ روى عنْ –مالكٍ -كما ذكرهُ الدارقطني- فلمْ تشتهرْ روايتهُ عنهُ ، كاشتهارِ روايةِ الشافعيِّ )) (محاسن الاصطلاح : 86 ) انتهى .
وأبو منصورٍ التميميُّ البغداديُّ القائلُ هذا كانَ منَ الجامعينَ لفنونِ العلمِ منَ الفقهِ ، والأصولِ ، والأدبِ ، والنحو ، والحسابِ ، وغيرها ، ماتَ سنة سبعٍ وعشرينَ وأربعِ مئةٍ .
3 – تضمن الكتاب تنبيهات مهمة 1 / 99 : (( قولهُ : ( بالحديثِ ) أهلُ الحديثِ يطلقونَ على السندِ وحدهُ حديثاً )) .
4- تضمن الكتاب إحصائيات مهمة 1 / 108 : (( إنَّ مَنْ أفردَ الصحيحَ بالتصنيفِ قومٌ قليلٌ ، كالشيخينِ ، ومنِ استخرجَ على كتابيهما ، أو استدركَ ، وكابنِ خزيمةَ ؛ إذْ صَنفَ في الصحيحِ ، وابنِ حبانَ وأبي عوانةَ ، فالجميعُ لا يبلغونَ عشرينَ ، فمصنفاتهمْ يسيرةٌ بالنسبةِ إلى أسانيدِ صحابي ممنْ ذكرَ ، فإنَّ الأسانيدَ إلى كلٍّ منهمْ كثيرةٌ ، فلأجلِ حسنِ هذا الترتيبِ خالفَ ترتيب ابنِ
الصلاحِ ، وقدمَ هذا على مسألةِ إمكانِ التصحيحِ في /20أ / هذهِ الأعصارِ )) .
5- إشارته إلى أحاديث ضعيفة مع عدم تعليله إياها ، من ذلك قوله في 1 / 125 : ((قالَ بعضُ أصحابنا : منها حديثُ المرأةِ التي شربتْ بولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهي أم أيمنَ -رضي الله عنها- )) .
6- نقله درر ونفائس كنقله عن الشافعي 1 / 126 : ((حتى ذُكِرَ عنِ الشافعيِّ أنَّهُ قالَ : مَن ادّعى أَنَّ السُنّةَ اجتمعتْ كلها عندَ رجلٍ واحدٍ فسقَ ، ومن قالَ : إنَّ شيئاً منها فاتَ الأمةَ فَسَقَ )) .
7- بيانه فوائد المستخرجات كقوله في 1 / 150- 151 : (( ........ كما قدَّمنا عن أبي عوانةَ . قالَ : وقد أبلغتُ الفوائدَ إلى عشرٍ أو أكثرَ ، فمنها : أنْ يكونَ مصنِّفُ الصحيحِ رَوَى عن مختلطٍ ولم يُبَيّنْ هل سماعُ ذلكَ الحديثِ منه في هذهِ الروايةِ قبلَ الاختلاط ، أو بعده ؟ فيبينهُ المستخرجُ ، إما تصريحاً ، أو بأنْ يرويهُ عنهُ مِنْ طريقِ منْ لم يسمعْ منهُ إلا قبلَ الاختلاطِ ، ومنها : أَن يُروَى في "الصحيحِ" عن مدلسٍ بالعنعنةِ ، فيرويهِ المستخرِجُ بالتصريحِ بالسماعِ فهاتانِ فائدتانِ جليلتانِ ، وإنْ كنا لا نتوقفُ في صحةِ ما رُوِيَ في الصحيحِ مِنْ ذلكَ ، غيرَ مبينٍ ، ونقولُ : لو لم يطّلعْ مصنِّفهُ مِن البخاريِّ ، أو مسلمٍ أنهُ روى عنهُ قبلَ الاختلاطِ ، وأَنَّ المدلسَ سمعَ ، لم يخرجاهَ ، فقد سألَ السبكيُّ المزيَّ : هل وُجِدَ لكلِ ما روياهُ بالعنعنةِ طرقٌ مصرحٌ فيها بالتحديثِ ؟ فقالَ : كثير مِنْ ذلكَ لم يوجدْ ، وما يسعنا إلا تحسينُ الظنِ . ومنها : أَنْ يروى عن مبهمٍ كأن يقولا : حدثنا فلانٌ ، أو رجلٌ ، أو فلانٌ وغيرهُ ، أو غيرُ واحدٍ ، أو نحو ذلكَ ، فيعينهُ المستخرجُ .
ومنها : أَن يرويَ عن مهملٍ نحوَ حدثنا محمدٌ / 35 ب / مِنْ غيرِ ذكرِ ما يميزهُ عن غيرهِ منَ المحمدينَ ، ويكونُ في مشايخِ مَنْ رواهُ كذلكَ ، مَن يشاركهُ في الاسمِ ، فيميزهُ المستخرجُ .
ثم نَقلَ شيخُنا عن الحافظِ شمسِ الدينِ بنِ ناصرِ الدينِ أنَّهُ نيّفَ بالفوائدِ عن الخمسَ عشرَةَ ، فأفكرَ ملياً ، ثم قالَ : عندي ما يزيدُ على ذلكَ بكثيرٍ ، وهوَ أَنَّ كلَّ علةٍ أُعلَ بها حديثٌ في أحدِ الصحيحينِ ، جاءت روايةُ المستخرجِ سالمةً
منها ، فهي مِنْ فوائدِ المستخرجِ ، وذَلِكَ كثيرٌ جداً ، واللهُ الموفقُ .
8- بيانه طبقات أصحاب الزهري 1 / 158-159 : ((قالَ شيخنا : / 38ب/ (( كلامهُ أبسطُ مِنْ هذا ، وهوَ أنَّهُ عمد إلى الزهري لكثرةِ أصحابه ، فجعلهم خمسَ طبقاتٍ :
الأُولى : مَنْ طالت ملازمتهُ لهُ ، بل ما انفكَّ عنهُ حتى كانَ يُزَامله على الراحلةِ في السفرِ، وَيلازمهُ في الحضر مع الإتقانِ التامِّ .
الثانيةُ : مَنْ هم دونَ هؤلاءِ في الإتقانِ، وَالملازمةِ .
الثالثة : مَنْ لم يلازم أَصلاً ، أَو إلا يسيراً مع إتقانٍ ، وَلكنهُ دونَ إتقانِ منْ قبلهُ .
الرابعةُ : مَنْ يطلقُ عليهِ اسمُ الصدقِ ، ولم يَسلمْ .
..
[size=24] الحديث المرسل : هو ما أضافه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
وهذا من أجود التعاريف ؛ لأنه يعمّ ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول ، أو فعل ، أو تقرير ، أو صفة ؛ فعلى هذا من عرَّفه بأنه : ما قال فيه التابعي : قال النبي صلى الله عليه وسلم ، فتعريفه قاصر ؛ لأنه لا يشمل التقرير ، أو الصفة ، أو الفعل . وكذا من عرَّفه بأنه : ما سقط منه الصحابي ، فكذلك تعريفه غير جيد ؛ لأنّا لو كنَّا نعلم أن الصحابي وحده هو الساقط لما ضعفنا الحديث ، إذ العلة بالمرسل :خشية أن يكون التابعي قد سمعه من تابعي آخر ، ولا نعلم لهذا التابعي الآخر عدالةً ولا ضبطاً .
وأما التابعي الذي يروي المرسل : فهو الذي لقي بعض الصحابة ، وسمع منهم أحاديث ، ولا يشترط فيه أن يكون كبيراً كما اشترطه بعضهم .
أما التابعي الذي له رؤية لبعض الصحابة ، ولم يسمع من أحد منهم ، فهذا إذا روى شيئاً مباشرةً عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فحديثه معضل ، وإذا روى شيئاً عن الصحابة فهو منقطع ؛ لأنّه ثبت له شرف التابعية ، لا أحكامها .
ومن هؤلاء : إبراهيم النّخعي ، والأعمش .
فإبراهيم النّخعي لقي عائشة ، ولم يسمع منها شيئاً ، والأعمش رأى أنساً ، ولم يسمع منه شيئاً .
وللفائدة : فإنَّ هذا التعريف للمرسل هو الذي استقر عليه الاصطلاح . أما السابقون : فكانوا يطلقون كلمة ( مرسل ) على كل منقطع .
فعلى هذا تكون طريقة تمييز المرسل بمجرد أن يعلم أنَّ الذي حدَّث به عن النبي صلى الله عليه وسلم تابعي ، وتمييز التابعين من غيرهم يعرف من كتب رجال الحديث .
حكم الحديث المرسل
اختلف أهل العلم في الاحتجاج بالمرسل على أقوال كثيرة ، أشهرها ثلاثة أقوال رئيسة :
القول الأول : إنَّ الحديث المرسل ضعيف ، لا تقوم به حجَّة . وهذا ما ذهب إليه جمهور المحدِّثين ، وكثير من أهل الفقه والأصول .
قال الإمام مسلم _ رحمه الله تعالى _ : (( والمرسل في أصل قولنا ، وقول أهل العلم بالأخبار ، ليس حجَّة )) .
وقال ابن الصلاح : (( وما ذكرناه من سقوط الاحتجاج بالمرسل ، والحكم بضعفه ، هو الذي استقرَّ عليه آراء جماعة حفاظ الحديث ، ونقّاد الأثر ، وتداولوه في تصانيفهم )) .
وحجَّتهم : هو جهالة الواسطة التي روى المرسل الحديث عنه ، إذ قد يكون الساقط صحابياً ، وقد يكون تابعياً . وعلى الاحتمال الثاني : قد يكون ثقة ، وقد يكون غير ثقة ، قال الخطيب البغدادي : ( والذي نختاره : سقوط فرض العمل بالمرسل ، وأنَّ المرسل غير مقبول ، والذي يدل على ذلك : أنَّ إرسال الحديث يؤدي إلى الجهل بعين راويه ، ويستحيل العلم بعدالته مع الجهل بعينه ، وقد بيَّنا من قبل أنَّه لا يجوز قبول الخبر إلاّ ممن عرفت عدالته ، فوجب كذلك كونه غير مقبول ، وأيضاً فإنَّ العدل لو سئل : عمَّن أرسل ؟ فلم يعدله ،لم يجب العمل بخبره ، إذا لم يكن معروف العدالة من جهة غيره ، وكذلك حاله إذا ابتدأ الإمساك عن ذكره ، وتعديله ؛ لأنَّه مع الإمساك عن ذكره غير معدل له ، فوجب أن لا يقبل الخبر عنه )) .
وقال الحافظ ابن حجر ، بعد أن ذكر المرسل في أنواع المردود : (( وإنَّما ذُكرَ في قسم المردود ؛ للجهل بحال المحذوف ؛ لأنَّه يحتمل أن يكون صحابياً ، ويحتمل أن يكون تابعياً ، وعلى الثاني يحتمل أن يكون ضعيفاً ، ويحتمل أن يكون ثقة ، وعلى الثاني يحتمل أن يكون حمل عن صحابي ، ويحتمل أن يكون حمل عن تابعي ، وعلى الثاني فيعود الاحتمال السابق ، ويتعدد إمَّا بالتجويز العقلي ، فإلى ما لا نهاية ، وإمَّا بالاستقراء ، فإلى ستة ، أو سبعة ، وهو أكثر ما وُجدَ في رواية بعض التابعين عن بعض )) .
القول الثاني : يقبل المرسل من كبار التابعين دون غيرهم ، بشرط الاعتبار في الحديث المرسَل ، والراوي المرسِل . أمَّا الاعتبار في الحديث : فهو أن يعتضد بواحد من أربعة أُمور : أن يروى مسنداً من وجه آخر ، أو يُروى مرسلاً بمعناه عن راوٍ آخر لم يأخذ عن شيوخ الأول ؛ فيدلّ ذلك على تعدد مخرج الحديث ، أو يوافقه قول بعض الصحابة ، أو يكون قال به أكثر أهل العلم .
وأمَّا الاعتبار في راوي المرسل : فأن يكون الراوي إذا سمَّى من روى عنه لم يسمِ مجهولاً ، ولا مرغوباً عنه في الرواية . فإذا وجدت هذه الأمور كانت دلالة على صحة مخرج حديثه ، فيحتجُّ به . وهو قول الإمام الشافعي .
القول الثالث : يقبل المرسل ويحتجّ به إذا كان راويه ثقة .
وهو قول أبي حنيفة ، ومالك ، ورواية عن أحمد .
والقول الصحيح هو الأول ؛ لأنَّ المرسل فقد شرط الاتصال ، والاتصال شرطٌ رئيسيٌ في صحة الحديث ، وليس هناك فرق بين القول الأول والثاني ؛ لأنَّ أصحاب القول الأول متَّفِقون على أن المرسل ليس من الضعف الشديد ، يتقوى بالمتابعات والشواهد ، فالقول الثاني ليس هو ناف للقول الأول ، إلا أن الفرق أن الشافعي خصه بكبار التابعين ، وسبب جعله قسيماً للقول الأول ؛ أنَّنا لم نجد من فصَّله بهذا التفصيل الرائع ، وعُد هذا من مآثر الإمام الشافعي ، زيادة على أنَّ قضية تقوية الأحاديث تدرك بالمباشرة ، وجعل ذلك تحت قاعدة كلِّية، يتورع عنها كثير من الناس ، إذ لكل حديث حالته الخاصة لاسيما قضية تقوية الحديث بعمل أهل العلم به يتوقف فيها كثير من الناس .
مثال المرسل : ما رواه أبو داود في سننه ( 105 ) ، قال : حدَّثنا محمد بن سليمان الأنباري ، حدَّثنا كثير بن هشام ، عن عمر بن سليم الباهلي ، عن الحسن ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( حصِّنوا أموالكم بالزكاة ، وداووا مرضاكم بالصدقة ، واستقبلوا أمواج البلاء بالدعاء والتضرع )) .
فهذا حديث مرسل ، فإنَّ الحسن البصري تابعي ، وقد أرسله إلى النبيصلى الله عليه وسلم ، ولم يذكر عمن سمعه ، فهو ضعيف من جهة إرساله ، وعدم اتصاله .
ومراسيل التابعين كلها ضعيفة ، لكنّها تتفاوت ، فبعضها أهون من بعض ، بحسب قدم التابعي المرسل ، وكبره ، أو صغره .
فكبار التابعين : الذين أدركوا كبار الصحابة كأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وابن مسعود ، ومعاذ بن جبل ، وأكثر روايتهم إذا سمّوا شيوخهم عن الصحابة ، وهؤلاء مثل : قيس بن أبي حازم ، وسعيد بن المسيب ، ومسروق بن الأجدع ، ويندرج في جملتهم من يُطلق عليه اسم المخضرمين ، وهم التابعون الذين أدركوا الجاهلية و الإسلام ، لكنهم لم يثبت لهم شرف الصحبة ، مثل : سويد بن غفلة ، وعمر بن ميمون الأودي ، وأبي رجاء العطاردي .
فمراسيل هؤلاء الكبار أفضل من غيرهم ، واحتمال تقويتها بالمتابعات والشواهد ، أقوى وأسرع .
أمَّا الطبقة الثانية : فهم طبقة أواسط التابعين ، وهم الذين أدركوا علي بن أبي طالب ، ومن بقي حياً إلى عهده ، وبُعيده من الصحابة كحذيفة بن اليمان ، وأبي موسى الأشعري ، و أبي أيوب الأنصاري ، وعمران بن حصين ، وسعد بن أبي وقاص ، وعائشة أُمّ المؤمنين ، وأبي هريرة ، والبراء بن عازب ، وعبد الله بن عمر ، و عبد الله بن عباس ، ووقع سماعهم من بعضهم ، ومن هؤلاء التابعين الأوساط الذين أدركوا بعض هؤلاء الصحابة : الحسن البصري ، ومحمد بن سيرين ، ، وعطاء بن أبي رباح ، وطاووس اليماني ، وأبو سلمة بن عبد الرحمان ، وعامر الشعبي ، ومجاهد بن جبر .
فمراسيل هذه الطبقة دون مراسيل أصحاب الطبقة الأولى من كبار التابعين ، ولكنها تكتب للاعتبار ، وتتقوى بالمتابعات والشواهد .
أمَّا الطبقة الثالثة : وهم صغار التابعين ، وهم من أدرك وسمع ممن تأخر موته من الصحابة ، الواحد و الاثنين ، والعدد يسير ، كمن سمع من أنس بن مالك ، وسهل بن سعد ، وأبي أمامة الباهلي . ومن هؤلاء من التابعين الصغار : ابن شهاب الزهري ، وقتادة بن دعامة السدوسي ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وحُميد الطويل ، فمراسيل هؤلاء من أضعف المراسيل ، وهي أشبه أن تكون معضلة ؛ لأنَّ غالب روايات هؤلاء عن التابعين ، فإذا أرسل أحدهم فيغلب على الظن أنه أسقط من الإسناد رجلين فأكثر .
ومن أقوى المراسيل : مراسيل سعيد بن المسيب ، فقد تتبعت فوجد غالبها مسانيد ، ومن المراسيل الجيدة : مراسيل عروة بن الزبير ؛ لشدَّة تحرِّيه ، وكذلك مراسيل الحسن البصري عند بعضهم ، وكذا مراسيل عامر بن شراحيل الشعبي .
أمَّا مراسيل الصحابة : وهو ما وقع لبعض الصحابة ، ممّا لم يسمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة ، إنما سمعوه من صحابة آخرين ، وهذا يحصل لصغار الصحابة ، مثل ابن عباس ، وأنس بن مالك ، فهذا مقبول عند جمهور المحدِّثين ؛ لأنَّ ما لم يسمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة ، فإنَّما سمعوه من صحابة آخرين ، والصحابة كلّهم عدول .
افتراضي تتميم
انظر في المُرسَل :
معرفة علوم الحديث : 25 ، والكفاية : ( 58 ت ، 21 ه ) ، والتمهيد 1/19 ، ومعرفة أنواع علم الحديث : 126 ، وجامع الأصول 1/115 ، وإرشاد طلاب الحقائق 1/167 – 179 ، والمجموع شرح المهذب 1/60 ، والاقتراح : 208 ، والتقريب : 54 – 57 ، ورسوم التحديث : 68 ، والمنهل الروي : 42 ، والخلاصة : 65 ، والموقظة : 38 ، وجامع التحصيل : 23 وما بعدها ، واختصار علوم الحديث : 1/153 ، وبتحقيقي : 113 ، والبحر المحيط 4/403 ، والشذا الفياح 1/147 ، والمقنع 1/129 ، ومحاسن الاصطلاح : 57 ، وشرح التبصرة والتذكرة 1/202 ، وتنقيح الأنظار : 121 ، ونزهة النظر : 62 ، والمختصر : 128 ، وفتح المغيث 1/128 ، وألفية السيوطي : 25 – 29 ، وشرح السيوطي على ألفية العراقي : 72 ، وفتح الباقي 1/194 ، وتوضيح الأفكار 1/283 ، وظفر الأماني : 343 ، وشرح شرح نخبة الفكر : 399 ، واليواقيت والدرر 1/498 ، وقواعد التحديث : 133 ، ولمحات في أصول الحديث : 225 .
رابعاً : التدليس
هُوَ أحد الأسباب الرئيسة المهمة في علم علل الحديث ؛ لأن التدليس يكشف عَنْ سقوط راوٍ أحياناً فيكون لهذا الساقط دور في اختلاف الأسانيد والمتون أو يكون الراوي ضعيفاً ولم يتابع فيضعف الحديث من أجله ولابدّ لنا من تفصيل القَوْل في التدليس :
فالتدليس لغة : مأخوذ من الدَّلَسِ – بالتحريك – وَهُوَ اختلاط الظلام الذي هو سبب لتغطية الأشياء عن البصر . قال ابن حجر : وكأنه أظلم على الناظر لتغطية وجه الصواب فيه . ومنه التدليس في البيع ، يقال : دلس فلان على فلان ، أي : ستر عنه العيب الذي في متاعه كأنه أظلم عليه الأمر ، وأصله مما ذكرنا من الدلس .
أما في الاصطلاح ، فإن التدليس عندهم يتنوع إلى عدة أنواع :
الأول : تدليس الإسناد :
وَهُوَ أن يروي الرَّاوِي عمن لقيه ما لَمْ يسمعه مِنْهُ بصيغة محتملة .
والمراد من الصيغة المحتملة : أن لا يصرح بالسماع أَوْ الإخبار مثل : حَدَّثَنَا ، وأخبرنا وأنبأنا ، وسمعت ، وَقَالَ لنا ، وإنما يجيء بلفظ يحتمل الاتصال وعدمه ، مثل : إن ، وعن ، وَقَالَ ، وحدّث ، وروى ، وذكر ، لذا لَمْ يقبل الْمُحَدِّثُوْنَ حَدِيْث المدلس ما لَمْ يصرِّح بالسماع .
الثاني: تدليس الشيوخ :
وَهُوَ أن يأتي باسم شيخه أَوْ كنيته عَلَى خلاف المشهور بِهِ تعمية لأمره وتوعيراً للوقوف عَلَى حاله . وهذا النوع حكمه أخف من السابق ، وفي هَذَا النوع تضييع للمروي عَنْهُ وللمروي وتوعير لطريق مَعْرِفَة حالهما . ثُمَّ إن الحال في كراهيته يختلف بحسب الغرض الحامل عَلَيْهِ، إِذْ إن من يدلس هَذَا التدليس قَدْ يحمله كون شيخه الَّذِيْ غيّر سمته غَيْر ثقة ، أو أصغر من الرَّاوِي عَنْهُ ، أو متأخر الوفاة قَدْ شاركه في السَّمَاع مِنْهُ جَمَاعَة دونه ، أو كونه كثير الرِّوَايَة عَنْهُ فلا يحب تكرار شخص عَلَى صورة واحدة .
الثالث: تدليس التسوية :
وَهُوَ أن يروي عَنْ شيخه ، ثُمَّ يسقط ضعيفاً بَيْنَ ثقتين قَدْ سَمِعَ أحدهما من الآخر أو لقيه ، ويرويه بصيغة محتملة بَيْنَ الثقتين . وممن اشتهر بهذا النوع : الوليد بن مُسْلِم ، وبقية بن الوليد . وهذا النوع من التدليس يشترط فِيْهِ التحديث والإخبار من المدلس إلى آخره .
تنبيه : هذا النوع من التدليس قَدْ سماه القدماء تجويداً . فتح المغيث 1/199 ،وتدريب الرَّاوِي 1/226 ،وشرح ألفية السيوطي: 36 – أي يذكر فيه الجياد من أهل الإسناد ، أو أنه جعل ظاهر الإسناد جيداً بهذا الصنع القبيح ، أو لأن المدلس يبقي جيد رواته - . وسماه صاحب ظفر الأماني : 377 بـ : " التحسين " – أي أن المدلس يحسن ظاهر الإسناد .
وسمي هذا النوع من التدليس تسوية ؛ لأن فاعله يسقط المجروح من الإسناد من بعد شيخه ليستوي حال رجاله في الثقة .
الرابع: تدليس العطف :
وَهُوَ مثل أن يقول الرَّاوِي : حَدَّثَنَا فُلاَن وفلان ، وَهُوَ لَمْ يَسْمَع من الثاني .
الخامس: تدليس السكوت :
وَهُوَ كأن يقول الرَّاوِي: حَدَّثَنَا أَوْ سَمِعْتُ، ثُمَّ يسكت برهة ، ثُمَّ يقول: هشام بن عروة أو الأعمش موهماً أنه سَمِعَ منهما ، وليس كذلك .
السادس: تدليس القطع :
وَهُوَ أن يحذف الصيغة ويقتصر عَلَى قوله مثلاً : الزهري عَنْ أنس .
السابع: تدليس صيغ الأداء :
وَهُوَ ما يقع من الْمُحَدِّثِيْنَ من التعبير بالتحديث أَوْ الإخبار عَن الإجازة موهماً للسماع ، وَلَمْ يَكُنْ تحمله لِذَلِكَ المروي عَنْ طريق السَّمَاع .
وهذه الأنواع السبعة ليست كلها مشتهرة إنما المشتهر مِنْهَا والشائع الأول والثاني وعند الإطلاق يراد الأول . وهذا القسم هُوَ الَّذِيْ لَهُ دورٌ في الاختلافات الحديثية متوناً وأسانيد ، إِذْ قَدْ يكشف خلال البحث بَعْدَ التنقير والتفتيش عَنْ سقوط رجل من الإسناد وربما كَانَ هَذَا الساقط ضعيفاً أَوْ في حفظه شيءٌ ، أو لَمْ يضبط حديثه هَذَا .
ومن الأمثلة عَلَى ذَلِكَ ما رَوَاهُ ابن حبان في صحيحه ( 1423 ) من طريق ابن جريج ، عَنْ نافع، عَن ابن عمر ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا تَبُلْ قائماً )) .
وهذا الإسناد رجاله ثقات إلا أنَّ ابن جريج مدلسٌ وَقَدْ عنعن هنا وَلَمْ يصرح بسماعه من نافع ، وَهُوَ قَدْ سَمِعَ من نافع أحاديث كثيرة ، فهُوَ معروف
بالرواية عَنْهُ ، وروايته عَنْهُ في الكتب الستة . ولكن النقاد ببصيرتهم الناقدة
ونظرهم الثاقب كشفوا أنَّ في هَذَا السند واسطة بَيْنَ ابن جريج ونافع ، وأن ابن جريج لَمْ يسمعه من نافع مباشرة ، بَلْ سمعه من عَبْد الكريم بن أبي المخارق الضعيف ، وَقَدْ صرّح ابن جريج في بعض طرق الْحَدِيْث بهذا الساقط ، فبان تدليسه ؛ فَقَدْ رَوَى
عَبْد الرزاق في مصنفه (15924 ) – ومِنْ طريقه ابن ماجه في سننه ( 308 ) )، وأبو عوانة في مسنده (4/25 ) ، وابن عدي في الكامل ( 7/40 ) ، وتمام
الرازي في : الروض البسام بترتيب وتخريج فوائد تمام ( 1/203 ( 148 ) ) ، والحاكم في : المستدرك ( 1/158 ) ، والبيهقي في السنن الكبرى ( 1/102 ) - عَن ابن جريج ، عَنْ عَبْد الكريم بن أبي المخارق ، عَنْ نافع ، بِهِ .
ومن بدائه علم الْحَدِيْث أن حَدِيْث الثقة ليس كله صحيحاً ، كَمَا أنّ حَدِيْث الضعيف ليس كله ضعيفاً ، ومعرفة كلا النوعين من أحاديث الفريقين ليس بالأمر اليسير إنما يطلع عَلَى ذَلِكَ الأئمة النقاد الغواصون في أعماق ما يكمن في الروايات من صحة أو خطأ ، لذا فتّش العلماء في حَدِيْث ابن أبي المخارق هل توبع عَلَيْهِ ، أم أخطأ فِيْهِ ؟ وخالف الثقات الأثبات أم انفرد ؟ فنجدهُمْ قَدْ صرّحوا بخطأ ابن أبي المخارق لمخالفته الثقات الأثبات في ذَلِكَ ، قَالَ البوصيري في مصباح الزجاجة ( 1/45 ) – بَعْدَ أن ضعّف حَدِيْث ابن أبي المخارق - : (( عارضه خبر عبيد الله بن عمر العمري الثقة المأمون المجمع عَلَى ثقته ، ولا يُغتر بتصحيح ابن حِبّان هَذَا الخبر من طريق هشام بن يوسف ، عَن ابن جريج عَنْ نافع ، عَن ابن عمر . فإنه قَالَ بعده : أخاف أن يَكُوْن ابن جريج لَمْ يسمعه من نافع ، وَقَدْ صحّ ظنُّه ، فإنّ ابن جريج إمّا سمعه من ابن أبي المخارق كَمَا ثبت في رِوَايَة ابن ماجه هَذِهِ والحاكم في المستدرك واعتذر عَنْ تخريجه أنه إنّما أخرجه في المتابعات )) .
وَقَالَ الترمذي : (( إنما رفع هَذَا الْحَدِيْث عَبْد الكريم بن أبي المخارق ، وَهُوَ ضعيف عِنْدَ أهل الْحَدِيْث ، ضعّفه أيوب السختياني وتكلم فِيْهِ . وروى عبيد الله ، عَنْ نافع عَن ابن عمر قَالَ : قَالَ عمررضي الله عنه: ما بلتُ قائِماً منذُ أسلَمْتُ . وهذا أصح من حَدِيْث عَبْد الكريم )) الجامع الكبير للترمذي 1/61-62 عقيب ( 12 ) .
أقول: رِوَايَة عبيد الله الموقوفة أخرجها ابن أبي شيبة في مصنفه (1324) ، والبزار في مسنده (وَهُوَ المسمى بـ : البحر الزخار ( 149 ) ، والحديث أيضاً في كشف الأستار ( 244 ) ) من طريق عبيد الله بن عمر، عَنْ نافع ، عَن ابن عمر ، عَنْ عمر موقوفاً ، وَهُوَ الصواب.
ومما يدل عَلَى عدم صحة حَدِيْث ابن أبي المخارق أن الحافظ ابن حجر قَالَ :
(( وَلَمْ يثبت عَن النَّبِيّ في النهي عَنْه شيء )) فتح الباري 1/330 .
بَعْدَ هَذَا العرض السريع بان لنا واتضح أن التدليس سبب من أسباب الاختلافات في الأسانيد والمتون ؛ إِذْ إنه قَدْ يسفر عَنْ سقوط رجلٍ من الإسناد فيخالف الرَّاوِي غيره من الرُّوَاة .
وما دمت قد مهدت عن التدليس وأنواعه فلا بد أن أذكر أموراً أخرى تتعلق بالتدليس ، وهي كما يأتي :
أولاً . حكم التدليس ، وحكم من عرف بِهِ :
مضى بنا في تعريف التدليس لغة أنّ مجموع معانيه تؤول إلى إخفاء العيب ، وليس من معانيه الكذب ، ومع ذَلِكَ فَقَد اختلف العلماء في حكمه وحكم أهله .
فَقَدْ ورد عن بعضهم ومنهم - شعبة - التشديد فِيْهِ ، فروي عَنْهُ أنه قَالَ : (( التدليس أخو الكذب )) ، وَقَالَ أَيْضاً : (( لأنْ أزني أحب إليّ من أن أدلس )) .
ومنهم من سهّل أمره وتسامح فِيْهِ كثيراً ، قَالَ أبو بكر البزار : (( التدليس ليس بكذب ، وإنما هُوَ تحسين لظاهر الإسناد )) .
وَالصَّحِيْح الَّذِيْ عليه الجمهور أنه ليس بكذب يصح به القدح في عدالة الرَّاوِي حَتَّى نرد جميع حديثه ، وإنما هُوَ ضَرْبٌ من الإيهام ، وعلى هَذَا نصّ الشَّافِعِيّ –رحمه الله– فَقَالَ: (( ومن عرفناه دلّس مرة فَقَدْ أبان لنا عورته في روايته، وليست تِلْكَ العورة بالكذب فنرد بِهَا حديثه ، ولا النصيحة في الصدق ، فنقبل مِنْهُ ما قبلنا من أهل النصيحة في الصدق) ) .
ويمكن حمل التشدد الوارد عن شعبة عَلَى (( المبالغة في الزجر عَنْهُ والتنفير )) .
وإذا تقرر هَذَا ، فما حكم حَدِيْث من عرف بِهِ ؟ للعلماء فِيْهِ أربعة مذاهب :
الأول : لا تقبل رِوَايَة المدلس ، سواء صرح بالسماع أم لا ، حكاه ابن الصَّلاَحِ عن فريق من أهل الْحَدِيْث والفقه ، وهذا مبني عَلَى القَوْل بأنّ التدليس نفسه جرح تسقط بِهِ عدالة من عُرِف بِهِ . وهذا الَّذِي استظهره عَلَى أصول مذهب الإمام مالك القاضي عَبْد الوهاب في الملخص .
الثاني : قبول رِوَايَة المدلس مطلقاً ، وَهُوَ فرع لمذهب من قَبِلَ المرسل ونقله الْخَطِيْب البغدادي عن جمهور من قَبِلَ المراسيل ، وحكاه الزركشي عن بعض شارحي أصول البزدوي من الحنفية . وبنوا هَذَا عَلَى ما بنوا عَلَيْهِ قبول المرسل ؛ من أنّ إضراب الثقة عن ذكر الرَّاوِي تعديل لَهُ ، فإن من مقتضيات ثقته التصريح باسم من روى عَنْهُ إذا كَانَ غَيْر ثقة .
الثالث : إذا كَانَ الغالب عَلَى تدليسه أن يَكُون عن الثقات فهو مقبول كيفما كانت صيغة التحديث ، وإن كَانَ عن غَيْر الثقة هُوَ الغالب رد حديثه حَتَّى يصرح بالسماع ، حكاه الْخَطِيْب عن بعض أهل العلم ، ونقله الزركشي عن أبي الفتح الأزدي .
الرابع : التفصيل بَيْنَ أن يروي بصيغة مبينة للسماع، فيقبل حديثه، وبين أن يروي بصيغة محتملة للسماع وغيره فلا يقبل. وهذا الَّذِي عَلَيْهِ جمهور أَهْل الْحَدِيْث وغيرهم وصححه جمع ، مِنْهُمْ : الْخَطِيْب البغدادي وابن الصَّلاَحِ وغيرهما وهو الحق .
ثانياً . حكم الْحَدِيْث المدلس :
لما كَانَ في حَدِيْث المدلس شبهة وجود انقطاع بَيْنَ المدلس ومن عنعن عَنْهُ ، بحيث قَدْ يَكُوْن الساقط شخصاً أو أكثر ، وَقَدْ يَكُوْن ثقة أَوْ ضعيفاً . فلما توافرت هَذِهِ الشبهة اقتضى ذَلِكَ الحكم بضعفه .
لكن المدلس إذا صرح بالسماع قبل حديث ، مثاله : ما رواه محمد بن إسحاق ، عن يعقوب بن عتبة ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن عائشة ، قالت : رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من البقيع ، فوجدني وأنا أجد صداعاً في رأسي . وأنا أقول : وارأساه ، فقال : بل أنا وارأساه ثم قال : ما ضرك لو مت قبلي ، فقمت عليك فغسلتك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك .
فمدار هذا الحديث على محمد بن إسحاق ، وهو مدلس ، وقد عنعن في بعض الطرق ، ولذا ضعف بعض العلماء الحديث بذلك ، لكنه صرح بالسماع عند البيهقي في السنن الكبرى 3/396 فانتفت شبهة تدليسه فقبل حديثه .
ملاحظة : المدلس إذا دلس قد يسقط واحداً وقد يسقط أكثر من واحد .
وأسباب التدليس متعددة ، فمنهم من صنع ذلك من باب إحسان الظن بمن أسقطوه ، وإن كان مجروحاً عند غيرهم ، وأسقطوه تمشية لروايته .
ومنهم دلس لصغر سن شيخه ، ومنهم صنع ذلك لكراهة ذكره ؛ لسوء حاله من جهة أمر لا يعود إلى نفس حديثه .
ومنهم من صنع ذلك لضعف شيخه ، ومنهم من صنع ذلك لطلب العلو ، ومنهم من يصنع ذلك إذا شورك عن ذلك الشيخ من قبل من هم دونه في السن أو غير ذلك .
ومنهم من صنع ذلك لكثرته عن ذلك الشيخ
انظر في التدليس :
معرفة علوم الحديث : 103 ، والمدخل إلى الإكليل : 20 ، والكفاية : (508 ت ، 355 ه ) ، والتمهيد 1/15 ، ومعرفة أنواع علم الحديث : 156 ، وجامع الأصول 1/167 ، والإرشاد 1/205 ، والتقريب : 63 ، والاقتراح : 217 ، ورسوم التحديث : 74 ، والمنهل الروي : 72 ، والخلاصة : 74 ، والموقظة : 47 ، وجامع التحصيل : 97 ، واختصار علوم الحديث 1/172 ، وبتحقيقي : 129 ، والشذا الفياح 1/173 ، والمقنع: 1/154 ، ومحاسن الاصطلاح : 77 ، وشرح التبصرة والتذكرة 1/234 ، وتنقيح الأنظار : 140 ، ونزهة النظر : 65 ، ومقدمة طبقات المدلسين : 13 ، والمختصر : 132 ، وفتح المغيث 1/169 ، وألفية السيوطي : 33 ، وشرح السيوطي على ألفية العراقي : 84 ، وفتح الباقي 1/224 ، وتوضيح الأفكار 1/346 ، وظفر الأماني : 373 ، وشرح شرح نخبة الفكر : 416 ، واليواقيت والدرر 2/10 ، وقواعد التحديث : 132 ، ولمحات في أصول الحديث : 237 .
افتراضي الشاذ
إن الاختلافات الواردة في المتن أو الإسناد تتفرع أنواعاً متعددة ، لكل نوع اسمه الخاص به ، ومن تلك الاختلافات هو أن يخالف الثقة ثقات آخرين ، مثل هذه المخالفة تختلف ، ربما تكون من ثقة يخالف ثقة آخر ، أو من ثقة يخالف عدداً من الثقات ، وإذا كان المخالف واحداً وليس جمعاً فيشترط فيه أن يكون أوثق ممن حصل فيه الاختلاف ، وهذا النوع من المخالفة يطلق عليه عند علماء المصطلح الشاذ ، وهو: أن يخالف الثقة من هو أوثق منه عدداً أو حفظاً .
وهذا التعريف مأخوذ من تعريف الشافعي للشاذ ، فقد روي عن يونس بن
عبد الأعلى ، قال: قال لي الشافعي -رحمه الله-: (( ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يروي غيره ، إنما الشاذ : أن يروي الثقة حديثاً يخالف ما روى الناس )) .
والشاذ في اللغة : المنفرد ، يقال : شذّ يَشُذُّ ويشِذُّ – بضم الشين وكسرها – أي : انفرد عن الجمهور ، وشذَّ الرجلُ: إذا انفرد عن أصحابه. وكذلك كل شيء منفرد فهو شاذ . ومنه : هو شاذ من القياس ، وهذا مما يشذ عن الأصول ، وكلمة شاذة…وهكذا .
إذن : الشذوذ هو مخالفة الثقة للأوثق حفظاً أو عدداً ، وهذا هو الذي استقر عليه الاصطلاح (وإنما قلنا هكذا ؛ لأن للشاذ تعريفين آخرين ، أولهما : وهو ما ذكر الحاكم النيسابوري – أن الشاذ هو الحديث الذي ينفرد به ثقة من الثقات ، وليس له أصل متابع لذلك الثقة . معرفة علوم الحديث : 119 .
وثانيهما : وهو ما حكاه الحافظ أبو يعلى الخليلي القزويني من أن الذي عليه حفاظ الحديث أن الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد يشذ بذلك شيخ ثقة كان أو غير ثقة ، فما كان عن غير ثقة فمتروك لا يقبل ، وما كان عن ثقة يتوقف فيه ولا يحتج به . الإرشاد 1/176-177 ) .
قال الحافظ ابن حجر : (( يختار في تفسير الشاذ أنه الذي يخالف رواية من هو أرجح منه )) .
ثم إن مخالفة الثقة لغيره من الثقات أمر طبيعي إذ إن الرواة يختلفون في مقدار حفظهم وتيقظهم وتثبتهم من حين تحملهم الأحاديث عن شيوخهم إلى حين أدائها . وهذه التفاوتات الواردة في الحفظ تجعل الناقد البصير يميز بين الروايات ، ويميز الرواية المختلف فيها من غير المختلف فيها ، والشاذة من المحفوظة ، والمعروفة من المنكرة .
ومن أمثلة الشاذ ما رواه عبد الواحد بن زياد قال : حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله : (( إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه )) فقد أخطأ عبد الواحد بن زياد وشذّ حينما جعل الحديث من قول النبي والصواب أنه من فعله هكذا رواه سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه عند ابن ماجه ( 1199 )، والنسائي في الكبرى ( 1456 )، وكذا رواه محمد بن إبراهيم ، عن أبي صالح عند البيهقي 3/45 .
وقد صرح جمع من الأئمة بشذوذ رواية عبد الواحد بن زياد منهم البيهقي في السنن الكبرى 3/45 فقال عن رواية الفعل: (( وهذا أولى أن يكون محفوظاً لموافقته سائر الروايات عن عائشة وابن عباس )) ، وكذا نقل الحكم بالشذوذ ابن القيم عن شيخه ابن تيمية في زاد المعاد 1/308 فقال : (( هذا باطل وليس بصحيح ، وإنما الصحيح عنه الفعل لا الأمر بها ، والأمر تفرد به عبد الواحد بن زياد وغلط فيه )) . وبنحو هذا قال الذهبي في الميزان 2/672 .
وهذا الشذوذ في جميع المتن ، وهناك شذوذ ببعض المتن كزيادة التسمية في حديث أنس في الوضوء ؛ فقد روى معمر بن راشد ، عن ثابت وقتادة ، عن أنس ، قال: نظر بعض أصحاب النَّبي وضوءاً فلم يجده ، فقال النَّبي : هاهنا ماء ، فرأيت النبي وضع يده في الإناء الذي فيه الماء ، ثم قال : توضئوا بسم الله ، فرأيت الماء يفور من بين أصابعه ، والقوم يتوضئون ، حتى توضئوا من عند آخرهم .
فمعمر بن راشد ثقة ثبت فاضل ، وشيخاه في هذا الحديث ثابت بن أسلم البناني ، وهو ثقة عابد ، وقتادة بن دعامة السدوسي ، وهو ثقة ثبت . إلا أنَّ معمر بن راشد قد أخطأ بذكر زيادة : (( بسم الله )) في الحديث ؛ إذ إنَّ الجمع من الرواة عن ثابت وقتادة لم يذكروا هذه الزيادة التي تفرد بها معمر مما يدل على خطئه ووهمه بها ؛ وذلك أنَّ سليمان بن المغيرة الثقة ، وحمّاد بن زيد الثقة وحمّاد بن سلمة الذي هو أثبت الناس في ثابت ، ثلاثتهم رووه عن ثابت ، عن أنس ، به ، ولم يذكروا زيادة (( بسم الله )) .
وكذلك روى الحديث عن قتادة جماعة لم يذكروا الزيادة ؛ فقد رواه سعيد بن أبي عروبة – وهو أثبت الناس في قتادة – وهمّام بن يحيى الثقة ، وهشام الدَّستوائي الثقة الثبت ، وشعبة بن الحجّاج الثقة الحافظ المتقن ، أربعتهم رووه عن قتادة ، عن أنس ، به ، ولم يذكروا هذه الزيادة ؛ إذن فليس من المعقول أن يغفل جميع الرواة من أصحاب ثابت و قتادة ، فيغيب عنهم حفظ هذه الزيادة ، ثم يحفظها معمر بن راشد .
ثمّ إنَّ ثابتاً و قتادة قد توبعا على رواية الحديث ، وليس فيه ذكر الزيادة ، تابعهما عليه إسحاق بن عبد الله – وهو ثقة حجّة - ، وحميد الطويل ، وهو ثقة ، والحسن البصري الثقة الفاضل .
فغياب زيادة : (( بسم الله )) عند هذه الكثرة يسلط الضوء على أنَّ الوهم في ذكرها من معمر ، والله أعلم .
ومن الأمثلة لحديث ثقة خالف في ذلك حديث ثقة أوثق منه :
ما رواه معمر بن راشد ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عبد الله بن أبي قتادة ، عن أبيه ، قال : (( خرجت مع رسول الله زمن الحديبية ، فأحرم أصحابي ولم أحرم ، فرأيت حماراً فحملت عليه ، فاصطدته ، فذكرت شأنه لرسول الله ، وذكرت أني لم أكن أحرمت ، وأني إنما اصطدته لك ؟ فأمر النَّبِيّ أصحابه فأكلوا ، وَلَمْ يأكل مِنْهُ حِيْنَ أخبرته أني اصطدته لَهُ )) .
فهذا الحديث يتبادر إلى ذهن الناظر فيه أول وهلة أنه حديث صحيح، إلا أنه بعد البحث تبين أن معمر بن راشد – وهو ثقة – قد شذ في هذا الحديث فقوله : (( إنما اصطدته لك )) ، وقوله : (( ولم يأكل منه حين أخبرته أني اصطدته له )). جملتان شاذتان شذ بهما معمر بن راشد عن بقية الرواة .
قال ابن خزيمة : (( هذه الزيادة : (( إنما اصطدته لك )) ، وقوله : (( ولم يأكل منه حين أخبرته أني اصطدته لك )) ، لا أعلم أحداً ذكره في خبر أبي قتادة غير معمر في هذا الإسناد ، فإن صحت هذه اللفظة فيشبه أن يكون أكل من لحم ذلك الحمار قبل [أن] يعلمه أبو قتادة أنه اصطاده من أجله، فلما أعلمه أبو قتادة أنه اصطاده من أجله امتنع من أكله بعد إعلامه إياه أنه اصطاده من أجله ؛ لأنه قد ثبت عنه أنه قد أكل من لحم ذلك الحمار )) .
هكذا جزم الحافظ ابن خزيمة بتفرد معمر بن راشد بهاتين اللفظتين ، وهو مصيب في هذا ، إلا أنه لا داعي للتأويل الأخير لجزمنا بعدم صحة هاتين اللفظتين – كما سيأتي التدليل عليه - .
وقال أبو بكر بن زياد النيسابوري - شيخ الدارقطني - : (( قوله : " اصطدته لك " ، وقوله: " ولم يأكل منه " ، لا أعلم أحداً ذكره في هذا الحديث غير معمر )) .
وقال البيهقي: (( هذه لفظة غريبة لم نكتبها إلا من هذا الوجه ، وقد روينا عن أبي حازم بن دينار ، عن عبد الله بن أبي قتادة في هذا الحديث أن النبي أكل منها ، وتلك الرواية أودعها صاحبا الصحيح كتابيهما دون رواية معمر وإن كان الإسنادان صحيحين )) .
وقال ابن حزم : (( لا يخلو العمل في هذا من ثلاثة أوجه . إما أن تغلب رواية الجماعة على رواية معمر لا سيما وفيهم من يذكر سماع يحيى من أبي قتادة ، ولم يذكر معمراً ، أو تسقط رواية يحيى بن أبي كثير جملة ؛ لأنه اضطرب عليه ، ويؤخذ برواية أبي حازم وأبي محمد وابن موهب الذين لم يضطرب عليهم؛ لأنه لا يشك ذو حسٍّ أن إحدى الروايتين وهم ، إذ لا يجوز أن تصح الرواية في أنه عليه السلام أكل منه ، وتصح الرواية في أنه عليه السلام لم يأكل منه ، وهي قصة واحدة في وقت واحد في مكان واحد في صيد واحد )) .
وسأشرح الآن شذوذ رواية معمر ، فأقول :
خالف معمر رواية الجمع عن يحيى ، فقد رواه هشام الدستوائي – وهو ثقة ثبت -، وعلي بن المبارك -وهو ثقة -، ومعاوية بن سلام -وهو ثقة -، وشيبان بن عبد الرحمان -وهو ثقة -، فهؤلاء أربعتهم رووه عن يحيى بن أبي كثير ، ولم يذكروا هاتين اللفظتين .
كما أن الحديث ورد من طريق عبد الله بن أبي قتادة من غير طريق يحيى بن أبي كثير ، ولم تذكر فيه اللفظتان مما يؤكد ذلك شذوذ رواية معمر بتلك الزيادة ؛ فَقَدْ رَوَاهُ عثمان بن عَبْد الله بن موهب – وَهُوَ ثقة - ، وأبو حازم سلمة بن دينار
- وهو ثقة - ، وعبد العزيز بن رفيع –وهو ثقة - ، وصالح بن أبي حسان – وهو صدوق - ؛ فهؤلاء أربعتهم رووه عن عبد الله بن أبي قتادة ، عن أبيه ، ولم يذكروا هاتين اللفظتين ، كما أن هذا الحديث روي من طرق أخرى عن أبي قتادة ، وليس فيه هاتان اللفظتان : فقد رواه نافع مولى أبي قتادة -وهو ثقة -، وعطاء بن يسار - وهو ثقة - ، ومعبد بن كعب بن مالك - وهو ثقة - ، وأبو صالح مولى التوأمة - وهو مقبول - فهؤلاء أربعتهم رووه دون ذكر اللفظتين اللتين ذكرهما معمر ، وهذه الفردية الشديدة مع المخالفة تؤكد شذوذ رواية معمر لعدم وجودها عند أحدٍ من أهل الطبقات الثلاث .
والذي يبدو لي أن السبب في شذوذ رواية معمر بن راشد دخول حديث في حديث آخر ؛ فلعله توهم بما رواه هو عن الزهري، عن عروة، عن يحيى بن عبد الرحمان بن حاطب، عن أبيه أنه اعتمر مع عثمان في ركب ، فأهدي له طائر ، فأمرهم بأكله ، وأبى أن يأكل ، فقال له عمرو بن العاص : أنأكل مما لست منه آكلاً ، فقال : إني لست في ذاكم مثله ، إنما اصطيد لي وأميت باسمي .
فربما اشتبه عليه هذا الحديث بالحديث السابق ، والله أعلم .
افتراضي تابع للشاذ
للفائدة ينظر في الشاذ :
معرفة علوم الحديث : 119 ، ومعرفة أنواع علم الحديث : 163 ، وجامع الأصول 1/177 ، والإرشاد 1/213 ، والتقريب : 67 ، والاقتراح : 211 ، ورسوم التحديث : 75 ، والمنهل الروي : 50 ، والخلاصة : 69 ، والموقظة : 42 ، ونظم الفرائد : 361 ، واختصار علوم الحديث 1/179 ، وبتحقيقي : 136 ، والشذا الفياح 1/180 ، والمقنع 1/165 ، ومحاسن الاصطلاح : 82 ، وشرح التبصرة والتذكرة 1/245 ، وتنقيح الأنظار : 150 ، ونزهة النظر : 84 ، والمختصر : 124 ، وفتح المغيث 1/ 185 ، وألفية السيوطي : 39 ، وشرح السيوطي على ألفية العراقي : 87 ، وفتح الباقي 1/232 ، وتوضيح الأفكار 1/377 ، وظفر الأماني : 356 ، وشرح شرح نخبة الفكر : 330 ، واليواقيت والدرر 1/420 ، وقواعد التحديث : 130 ، ولمحات في أصول الحديث : 253 ، وأثر اختلاف الأسانيد والمتون في اختلاف الفقهاء : 455
افتراضي الحديث المعل
الحديث المُعل
تعريف العلة لغة
عل - بلام مشددة مفتوحة -: متعد و لازم ، نقول فيهما : عل يعل – بضم العين و كسرها - و مصدرهما: علا .
و أعله الله : أي : أصابه بعلة .
و العلة : المرض ، و حدث يشغل صاحبه عن وجهه ، كأن تلك العلة صارت شغلاً ثانياً منعه من شغله الأول .
و علله بالشيء تعليلاً ، أي: لهاه به كما يعلل الصبي بشيء من الطعام عن اللبن ( 1 ) .
قال ابن فارس : ((عل : أصول ثلاثة صحيحة :
أحدها : تكرار أو تكرير ، و الثاني عائق يعوق ، و الثالث : ضعف في الشيء :
فالأول العلل و هو الشربة الثانية ، و يقال علل بعد نهل و يقال أعل القوم إذا شربت إبلهم عللا .
قال ابن الأعرابي في المثل : ما زيارتك إيانا إلا سوم عالة أي : مثل الإبل التي تعل .و إنما قيل هذا ؛ لأنها إذا كرر عليها الشرب كان أقل كشربها الثاني .
و الثاني :العائق يعوق ؛ قال الخليل : العلة حدث يشغل صاحبه عن وجهه ، و يقال : اعتله كذا أي اعتاقه ، قال : فأعتله الدهر و للدهر علل .
و الثالث : العلة المرض، وصاحبها معتل، قال ابن الأعرابي : عل المريض يعل فهو عليل )) ( 2 ) .
و المعل : اسم مفعول من أعله : أنزل به علة فهو معل ، يقولون : لا أعلك الله أي لا أصابك بعلة ، و الحديث الذي اكتشفت فيه علة قادحة هو معلٌ ؛ لأنه ظهر أنه مصاب بتلك العلة ( 3 ) .
و بهذا يتضح أن أقرب المعاني اللغوية لمعنى العلة في اصطلاح المحدثين هو : المرض ؛ و ذلك لأنَّ الحديث الذي ظاهره الصحة إذا أكتشف الناقد فيه علة قادحة فإنَّ ذلك يمنع من الحكم بصحته .
و قد أطلق بعض العلماء على الحديث ((المعل)) اسم : الحديث ((المعلول)) و أطلق بعضهم عليه اسم الحديث: ((المعلل)).
و قد أعترض النووي على تسميته بـ((المعلول)) و قال : ((هو لحن)) ( 4 ).
و ذلك لأنه مأخوذ من : أعله : يعله ، فاسم المفعول منه : معل . مثل : أضره يضره ، فاسم المفعول منه : مضر ( 5 ) .
و قد اعترض السيوطي على التسميتين ؛ فأيد النووي في قوله : إن التسمية بـ (المعلول)) لحنٌ ، و قال : لأن اسم المفعول من أعل الرباعي لا يأتي على مفعول .
ثم اعترض على التسمية بـ ((معلل)) فقال : الأجود فيه ((معل)) بلام واحدة ؛ لأنه مفعول أعله قياساً ، و أما((معلل)) فمفعول علل ؛ و هو لغة بمعنى : ألهاه بالشيء و شغله ، و ليس هذا الفعل بمستعمل في كلامهم ( 6 ) .
( 1 ) مختار الصحاح : 451 .
( 2 ) معجم مقاييس اللغة : 4/13-15 .
( 3 ) لسان العرب مادة ( علل ) .
( 4 ) التقريب مع التدريب 1/251 .
(5) شرح البيقونية في مصطلح الحديث للعلامة ابن عثيمين 115 .
( 6) تدريب الراوي 1/251 , قال العراقي في شرح التبصرة 1/225 : ((والأجود في تسمية المعل)) .
الحقيقة إن كتاب " معرفة أنواع علم الحديث " لابن الصلاح ثم كتاب " شرح التبصرة والتذكرة " ثم كتاب " النكت على كتاب ابن الصلاح " ثم كتاب " النكت الوفية بما في شرح الألفية " للبقاعي ، وهذه الكتب ثلاثتها تدور في فلك واحد فالثلاثة الأخيرة متعلقة بخدمة الكتاب الأول ، ومؤلفو الكتب الثلاثة الأخيرة متسلسون بالتتلمذ فالعراقي صاحب التبصرة والشرح شيخ لابن حجر وابن حجر شيخ للبقاعي وكل متأخر منهم متتلمذ على الأول بنفس العلم والفن ، فكانت هذه الكتب الأربعة نتاج جهابذة الفن لسنين طويلة ، وكنت قد كتبت عن النكت الوفية في هذا الموقع ما سأعيد نسخه الآن ، بصفتي أني حققت الكتب الأربعة السابقة وكلها في الأسواق إلا نكت الحافظ ابن حجر فما زال حبيساً في دار الميمان ، وقلت فيما سبق :
لا شك أن من أحسن كتب مصطلح الحديث كِتابَ الحافظ أبي عَمْرو عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَانِ الشهرزوري ( ت 643 ه ) المسمى "مَعْرِفَة أنواع علم الحَدِيث" ، قَالَ الحافظ ابن حَجَر : (( هذب فنونه وأملاه شيئاً بعد شيء ، فلهذا لَمْ يحصل ترتيبه عَلَى الوضع المتناسب ، واعتنى بتصانيف الخَطِيب المتفرقة فجمع شتات مقاصدها وضم إليها من غيرها نخب فوائدها ، فاجتمع فِي كتابه مَا تفرق فِي غيره ، فلهذا عكف النَّاس عَلَيْهِ ، وساروا بسيره ، فلا يحصى كم ناظم لَهُ ومُخْتَصَر ومستدرك عَلَيْهِ ومقتصر ومعارض لَهُ ومنتصر)) (( نزهة النَّظَرِ : 46-51 )) .
وكَانَ من أحسن تِلْكَ الكتب التي اعتنت بكتاب ابن الصلاح كِتَابُ الحافظ العراقي " شرح التبصرة والتذكرة " ، إذ نظم الحافظ العراقي كِتَاب ابن الصلاح بألفية من الشعر سماها : " التبصرة والتذكرة " ثُمَّ شَرح الألفية بكتابه : " شَرْح التبصرة والتذكرة " . ومنذ ظهور ذَلِكَ الكتاب النفيس اهتم العلماء بهذَا النظم والشرح .
ومن أولئك الذين اعتنوا بـ"شرح التبصرة والتذكرة " الحافظ ابن حَجَر العسقلاني ، وكتاب النكت الوفية ، إنما هُوَ من نتاج ابن حَجَر ، جمعه ورتبه تلميذه النجيب البقاعي وأضاف عَلَيْهِ ؛ حَتَّى خرج بحلة طيبة نافعة ؛ إذ صرّح البقاعيُّ نفسُهُ فِي أول مقدمته فَقَالَ : (( قيّدتُ فِيهَا مَا استفدته من تحقيق تلميذه ، شيخنا شيخ الإسلام حافظ العصر أبي الفضل شِهَابِ الدِّين أحمد بن عَلَيِّ بن حَجَر الكناني العسقلاني ، ثُمَّ المصري الشَّافِعِيّ قاضي القضاة بالديار المصرية أيام سماعي لبحثها عَلَيْهِ ، بارك الله فِي حياته وأدام عموم النفع ببركاته سميتها "النكت الوفية بما فِي شَرْح الألفية" ، واعلم أنَّ مَا كَانَ فيها من بحثي صدرته فِي الغالب بقلت ، وختمته بقولي : والله أعلم …)) (ويظهر لمن يطالع الكتاب أن ما صدره بـ ( قلت ) ، وختمه بـ ( الله أعلم ) لا يمثل عُشر الكتاب ) . ومن يطالع الكتاب لأول وهلة يجد أن مَا لَمْ يصدره بـ : (( قُلْتُ )) أكثر بكثير مِمَّا صدره بـ (( قلت )). مِمَّا يدلنا عَلَى أنَّ غالب الكتاب منقولٌ عَنْ لسان الحافظ ابن حَجَر زيادة عَلَى النصوص الكثيرة التي صرح فِيهَا بالنقل عَنْهُ .
ولأهمية هَذَا الكتاب ونفاسته ومعرفتي بقيمته العلمية من خلال تحقيقينا
" لشرح التبصرة والتذكرة " أردت إخراج هَذَا الكتاب من حيز المخطوط إِلىَ
عالم المطبوعات ، وقد منّ الله عَلَيَّ بأن وقفت عَلَى أربع نسخ خطيّة من الكتاب . إحداهما نسخة نفيسة مقروءة عَلَى المؤلف ، وعليها خطه فِي مواضع كثيرة من حواشي المخطوط ، وقد كتبها الشيخ العالم شِهَاب الدِّين أحمد بن مُحَمَّد بن عُمَرَ الحمصي سنة (880ه ) وغيرها من النسخ الخطية التي تم الحديث عنها في مقدمة الكتاب ، وفي هذه العجالة نماذج من فوائد الكتاب تفصح عن مضمونه ، والله ولي التوفيق .
1- تضمن الكتاب تعاريف مهمة مثل تعريف الحديث الحسن لغيره : 1 / 76 : (( فإنَّ الحسنَ لغيرهِ هو مالهُ سندانِ فأكثرُ ، كلُ ضعيفٍ متماسكٍ فهوَ موصوفٌ بالضعفِ قبلَ معرفةِ ما يعضدهُ مطلقاً ، وبعد ذَلِكَ باعتبارِ كل سَندٍ على انفرادهِ ، وبالحسنِ باعتبارِ المجموعِ )) .
2- التحرير لمسائل شائكة 1 / 94-96 : (( قولهُ : ( الأستاذ أبو منصورٍ التميمي ) (شرح التبصرة والتذكرة 1/ 107 ) أنهُ أجلُّ الأسانيدِ هذا مُسَلَّمٌ ، لكنْ لا ينهضُ دليلاً على الأصحيةِ ؛ لأنها أخصُّ ، والأجليةُ تكونُ مِنْ / 15ب / جهاتٍ عديدةٍ ، والشافعيُّ -رحمهُ اللهُ-–وإنْ كانَ قد حازَ الكمالَ في شروطِ الصحةِ، وزادَ على ذَلِكَ بما آتاهُ اللهُ تعالى منَ العلمِ الذي لا يجارى فيهِ ، والفطنةِ التي كأنها الكشفُ ، لكنْ غيرهُ يشاركهُ في الضبطِ الذي هوَ محطُّ الصحةِ ، ويزيدُ بكثرةِ ممارسةِ حديثِ مالكٍ ، فقالَ يحيى بنُ معينٍ : (( أثبتُ الناسِ في مالكٍ
القعنبيُّ )) (تقريب التهذيب 3620 )، أي : باعتبارِ قدرٍ زائدٍ على كمالِ الضبطِ وهو طولُ الملازمة لهُ ، وكثرةُ الممارسةِ لحديثهِ ، فالشافعيُّ –-رحمهُ اللهُ- أخذَ عن مالكٍ في أوائلِ عمرهِ ، وكانتْ قراءتهُ عليهِ مِنْ أوائلِ قراءتهِ للحديثِ ، ولمْ يلازمهُ ملازمةَ القعنبيِّ وابنِ
وهبٍ ، ولا قريباً منها .
قلتُ : فقولُ البلقينيِّ في كتابهِ " محاسنِ الاصطلاحِ " : (( لا يقالُ : فالقعنبيُّ –وابنُ وهبٍ لهما القعددُ في الروايةِ عن مالكٍ ؛ لأنا نقولُ : وأينَ تقعُ رتبتهما مِنْ رتبة الإمام الشافعيِّ )) ، فيهِ نظرٌ ؛ لما علمتَ من أَنَّ الترجيحَ فيهما إنما هوَ باعتبارِ طولِ الملازمةِ ، وكثرةِ الممارسةِ ، وهذا لا ينقصُ مِنْ مقدارِ الشافعيِّ . وأما زيادةُ إتقانِ الشافعيِّ فلا يشك فيها مَنْ لهُ علمٌ بأخبارِ الناسِ ، فقدْ كانَ أكابرُ المحدّثينَ يأتونهُ، فيذاكرونهُ بأحاديثَ أشكلتْ عليهم ، فيبينُ لهم ما أشكلَ، ويوقفهم على عللٍ غامضةٍ ، فيقومونَ وهم يتعجبونَ منهُ ، كما هوَ مشهورٌ في ترجمتهِ ، وقالَ الإمامُ أحمدُ : (( سمعتُ " الموطأَ " منَ الشّافعيِّ )) ، وذَلِكَ بعدَ سماعهِ لهُ مِنْ عبدِ الرحمانِ بنِ مهدي ، ووجود الرواةِ لهُ عنْ مالكٍ بكثرةٍ ، وقالَ : (( سمعتهُ منهُ لأنيِّ رأيتهُ فيهِ ثبتاً ، فعللَ إعادتهُ لسماعهِ وتخصيصها بالشافعي بأمرٍ يرجعُ إلى الثبتِ )) فتعليله بذلكَ أقلُ ما يفهمُ منهُ : أَنَّ الشّافعيَّ مساوٍ لابنِ مهديٍّ في الثبتِ في حديثِ مالكٍ إنْ لم نقلْ : إنَّهُ يقتضي زيادتهُ عليهِ في الثبتِ ، إذ لو كانَ مساوياً
/ 16 أ / لكانتِ الإعادةُ تحصيلاً للحاصلِ ، وقولُ أحمدَ : (( رأيتهُ فيهِ ثبتاً )) وَرَدَ على سؤالٍ ، فلا يكونُ لتقييدهِ بقيد مفهوماً .
قالَ البلقينيُّ : (( وأبو حنيفةَ وإنْ روى عنْ –مالكٍ -كما ذكرهُ الدارقطني- فلمْ تشتهرْ روايتهُ عنهُ ، كاشتهارِ روايةِ الشافعيِّ )) (محاسن الاصطلاح : 86 ) انتهى .
وأبو منصورٍ التميميُّ البغداديُّ القائلُ هذا كانَ منَ الجامعينَ لفنونِ العلمِ منَ الفقهِ ، والأصولِ ، والأدبِ ، والنحو ، والحسابِ ، وغيرها ، ماتَ سنة سبعٍ وعشرينَ وأربعِ مئةٍ .
3 – تضمن الكتاب تنبيهات مهمة 1 / 99 : (( قولهُ : ( بالحديثِ ) أهلُ الحديثِ يطلقونَ على السندِ وحدهُ حديثاً )) .
4- تضمن الكتاب إحصائيات مهمة 1 / 108 : (( إنَّ مَنْ أفردَ الصحيحَ بالتصنيفِ قومٌ قليلٌ ، كالشيخينِ ، ومنِ استخرجَ على كتابيهما ، أو استدركَ ، وكابنِ خزيمةَ ؛ إذْ صَنفَ في الصحيحِ ، وابنِ حبانَ وأبي عوانةَ ، فالجميعُ لا يبلغونَ عشرينَ ، فمصنفاتهمْ يسيرةٌ بالنسبةِ إلى أسانيدِ صحابي ممنْ ذكرَ ، فإنَّ الأسانيدَ إلى كلٍّ منهمْ كثيرةٌ ، فلأجلِ حسنِ هذا الترتيبِ خالفَ ترتيب ابنِ
الصلاحِ ، وقدمَ هذا على مسألةِ إمكانِ التصحيحِ في /20أ / هذهِ الأعصارِ )) .
5- إشارته إلى أحاديث ضعيفة مع عدم تعليله إياها ، من ذلك قوله في 1 / 125 : ((قالَ بعضُ أصحابنا : منها حديثُ المرأةِ التي شربتْ بولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهي أم أيمنَ -رضي الله عنها- )) .
6- نقله درر ونفائس كنقله عن الشافعي 1 / 126 : ((حتى ذُكِرَ عنِ الشافعيِّ أنَّهُ قالَ : مَن ادّعى أَنَّ السُنّةَ اجتمعتْ كلها عندَ رجلٍ واحدٍ فسقَ ، ومن قالَ : إنَّ شيئاً منها فاتَ الأمةَ فَسَقَ )) .
7- بيانه فوائد المستخرجات كقوله في 1 / 150- 151 : (( ........ كما قدَّمنا عن أبي عوانةَ . قالَ : وقد أبلغتُ الفوائدَ إلى عشرٍ أو أكثرَ ، فمنها : أنْ يكونَ مصنِّفُ الصحيحِ رَوَى عن مختلطٍ ولم يُبَيّنْ هل سماعُ ذلكَ الحديثِ منه في هذهِ الروايةِ قبلَ الاختلاط ، أو بعده ؟ فيبينهُ المستخرجُ ، إما تصريحاً ، أو بأنْ يرويهُ عنهُ مِنْ طريقِ منْ لم يسمعْ منهُ إلا قبلَ الاختلاطِ ، ومنها : أَن يُروَى في "الصحيحِ" عن مدلسٍ بالعنعنةِ ، فيرويهِ المستخرِجُ بالتصريحِ بالسماعِ فهاتانِ فائدتانِ جليلتانِ ، وإنْ كنا لا نتوقفُ في صحةِ ما رُوِيَ في الصحيحِ مِنْ ذلكَ ، غيرَ مبينٍ ، ونقولُ : لو لم يطّلعْ مصنِّفهُ مِن البخاريِّ ، أو مسلمٍ أنهُ روى عنهُ قبلَ الاختلاطِ ، وأَنَّ المدلسَ سمعَ ، لم يخرجاهَ ، فقد سألَ السبكيُّ المزيَّ : هل وُجِدَ لكلِ ما روياهُ بالعنعنةِ طرقٌ مصرحٌ فيها بالتحديثِ ؟ فقالَ : كثير مِنْ ذلكَ لم يوجدْ ، وما يسعنا إلا تحسينُ الظنِ . ومنها : أَنْ يروى عن مبهمٍ كأن يقولا : حدثنا فلانٌ ، أو رجلٌ ، أو فلانٌ وغيرهُ ، أو غيرُ واحدٍ ، أو نحو ذلكَ ، فيعينهُ المستخرجُ .
ومنها : أَن يرويَ عن مهملٍ نحوَ حدثنا محمدٌ / 35 ب / مِنْ غيرِ ذكرِ ما يميزهُ عن غيرهِ منَ المحمدينَ ، ويكونُ في مشايخِ مَنْ رواهُ كذلكَ ، مَن يشاركهُ في الاسمِ ، فيميزهُ المستخرجُ .
ثم نَقلَ شيخُنا عن الحافظِ شمسِ الدينِ بنِ ناصرِ الدينِ أنَّهُ نيّفَ بالفوائدِ عن الخمسَ عشرَةَ ، فأفكرَ ملياً ، ثم قالَ : عندي ما يزيدُ على ذلكَ بكثيرٍ ، وهوَ أَنَّ كلَّ علةٍ أُعلَ بها حديثٌ في أحدِ الصحيحينِ ، جاءت روايةُ المستخرجِ سالمةً
منها ، فهي مِنْ فوائدِ المستخرجِ ، وذَلِكَ كثيرٌ جداً ، واللهُ الموفقُ .
8- بيانه طبقات أصحاب الزهري 1 / 158-159 : ((قالَ شيخنا : / 38ب/ (( كلامهُ أبسطُ مِنْ هذا ، وهوَ أنَّهُ عمد إلى الزهري لكثرةِ أصحابه ، فجعلهم خمسَ طبقاتٍ :
الأُولى : مَنْ طالت ملازمتهُ لهُ ، بل ما انفكَّ عنهُ حتى كانَ يُزَامله على الراحلةِ في السفرِ، وَيلازمهُ في الحضر مع الإتقانِ التامِّ .
الثانيةُ : مَنْ هم دونَ هؤلاءِ في الإتقانِ، وَالملازمةِ .
الثالثة : مَنْ لم يلازم أَصلاً ، أَو إلا يسيراً مع إتقانٍ ، وَلكنهُ دونَ إتقانِ منْ قبلهُ .
الرابعةُ : مَنْ يطلقُ عليهِ اسمُ الصدقِ ، ولم يَسلمْ .
..
الإثنين ديسمبر 04, 2017 11:21 am من طرف حيدارليلاه
» كلــمـــة الأخــــوة
الثلاثاء يناير 13, 2015 6:50 pm من طرف kadi1988
» من أحسن ما قرأ لساني و أستوعبه قلبي
الخميس فبراير 27, 2014 12:00 pm من طرف kadi1988
» برنامج Firefox 3.5.6 الأسرع والافضل واكثر امان
الإثنين أكتوبر 14, 2013 8:16 pm من طرف daho
» كتاب Principes d'anatomie et de physiologie
الأربعاء سبتمبر 25, 2013 7:36 pm من طرف kadi1988
» حقوق الانسان
السبت يونيو 01, 2013 5:53 pm من طرف kadi1988
» حتى لا تتشتت الأسرة
السبت يونيو 01, 2013 5:51 pm من طرف kadi1988
» الكابتشينو
السبت يونيو 01, 2013 5:50 pm من طرف kadi1988
» حياتنا فى عيون حكيم
الجمعة مايو 03, 2013 8:39 pm من طرف kadi1988
» كتاب المناهي اللفظية
الجمعة مايو 03, 2013 8:37 pm من طرف kadi1988
» هل تعلم ان صورة نجمــة اسرائيل بجهازك .......
الجمعة مايو 03, 2013 8:36 pm من طرف kadi1988
» دق الباب بيدك ..
الجمعة مايو 03, 2013 8:33 pm من طرف kadi1988